29 يناير 2023

د. حسن مدن يكتب: مطربون لا يحفظون كلمات أغانيهم

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

د. حسن مدن يكتب: مطربون لا يحفظون كلمات أغانيهم

لم نشاهد قط السيدة أم كلثوم، على ما شاهدنا لها من حفلات غنائية، وأمامها منصة وضعت عليها أوراق بكلمات الأغنية التي تغنيها، تغني وعيناها على الورقة التي تذكرها بتلك الكلمات، ولم نشاهد فيروز تفعل ذلك، وهي التي عرفت بمشاركتها في مسرحيات غنائية طويلة، في المسرحية الواحدة منها عدة أغاني عليها أن تؤديها، ولم نشاهد محمد عبد الوهاب ولا فريد الأطرش ولا عبدالحليم حافظ ولا نجاة الصغيرة ولا وردة الجزائرية وسواهم الكثيرون يفعلون شيئاً من هذا.

كان كل هؤلاء المطربين والمطربات الكبار يحفظون، وبعد تدريب طويل بالتأكيد، كلمات أغانيهم عن ظهر قلب، ويحفظون تسلسل مقاطع تلك الكلمات، فلا يقدّمون مقطعاً قبل مكانه، ولا يؤخرون مقطعاً عن مكانه في سياق كلمات الأغنية التي يؤدونها، وكان تركيزهم منصباً على مواجهة الجمهور والتفاعل معه، لا توجيه أعينهم كل ثانية نحو الأوراق الموضوعة أمامهم ليقرأوا منها ما يُغنّونه من كلمات، وبالتالي فإن المطرب، أو المطربة، مع المتلقي بكل الجوارح والأحاسيس والتركيز.

في زمننا بات مألوفاً أن يوضع أمام المطرب أو المطربة منصة كتلك التي يضع عليها العازفون نوتات الموسيقى التي يعزفونها على آلاتهم، ولكن عليها وضعت أوراق تحمل كلمات ما يؤديه المطرب، أو المطربة، من أغاني، ولا تكاد عيناه، أو عيناها، أن ترفع عن تلك الورقة، ومع الوقت أصبحت هذه الظاهرة شائعة، لا لسبب سوى أن هؤلاء المطربين، وبينهم مطربون مهمّون، لا يكلفون أنفسهم عناء حفظ كلمات أغانيهم، وهذا يرينا الفارق الكبير بين مطربي ومطربات اليوم، ومطربي ومطربات الأمس الذين كانوا يقضون الساعات والأيام في التدرب على حفظ كلماتهم وحسن نطق مفرداتها، خاصة وأن بعضها كان بالعربية الفصحى كما هي حال بعض القصائد التي غنتها أم كلثوم وفيروز، وبعضها مأخوذ من تراثنا الشعري القديم.

مؤخراً شاهدت على التلفزيون نقلاً حياً لحفل غنائي لفنان خليجي مميز، تعجبني أغانيه جداً، كلمات ولحناً وأداء، وكانت مقاعد المسرح الذي أقيم عليه الحفل مكتظة بالحضور من الجنسين، وجلهم من الشباب، الذين كانوا في غاية الانسجام مع الفنان وهو يغني، تقرأ في نظرات عيونهم وابتسامات شفاهم وأصواتهم العالية وهم يرددون معه كلمات أغانيه مقادير البهجة والفرح والسعادة والإعجاب بالفنان وأغانيه، لكن الصادم في هذا الحفل، الرائع بالفعل، هو تلك المنصة التي عليها أوراق كلمات أغانيه التي كانت عيناه مصوبة نحوها، لا تكاد تفارقها.

المفارقة أن الحضور من المعجبين والمعجبات بالفنان كانوا يؤدون وبصوت جماعي عالٍ كلمات أغانيه التي يحبونها، لأنهم حافظون لكلماتها عن ظهر قلب، فيما هو مغني هذه الكلمات التي عرفوها بصوته الجميل يقرأها على الورق، ولا يحفظها!