«لا عيد ليوسف فوق هذه الأرض بعد الآن، عيده في السماء» تقف السيدة سوزان أبو علوش أمام كومة ركام في حي العسالية بمدينة جبلة الساحلية المنكوبة جراء الزلزال في غربي سوريا، تشير بيدها إلى أنقاضٍ وبقايا حياة، وتقول «هنا بيتي».. لا يسمح منظر الركام للناظر بتمييز الطابق الخامس الذي كانت تعيش فيه مع صغارها من الطوابق الأخرى، الركام يمحو آثار البيت مثل غيره من البيوت التي وحدهم سكانها قبل الزلزال يستطيعون تمييزها بين الركام، بقايا أثاثهم المهشم الذي ادخروا المال طويلاً لاقتنائه هي علامتهم الفارقة لحياة سابقة كانت هنا.
ما رأيناه في جولتنا بين الأمهات الثكالى لا يوصف، وما سمعناه من قصص الكارثة يدمي القلب، نتوقف هنا عند البعض منها لنتعرف على مدى هول المأساة وعظمة الأم وصبرها:
سوزان أبو علوش (أم سليمان)
"إن سألكم أحد عن لحظة الزلزال، فقولوا بكلمة واحدة: الموت"
قطعة بلاستيكية خضراء اللون تطفو فوق الركام، تشير إليها أم سليمان، أم لطفلين، سليمان ابن الثلاثة أعوام نجا من الكارثة على إحدى ذراعيها، أما يوسف فقضى على ذراعها الأخرى، تقول الأم المكلومة بصوت تخنقه الدموع «هذه كانت ليوسف.. لكنّ يوسف حلّق إلى السماء كما يقول أخوه عندما يفتقده.. وأنا أجيب سليمان بالدموع كل مرة، لا سبيل لي سواها، فأنا لا أصدّق ما حصل حتى هذه اللحظة».
تصف أم سليمان لحظات ليلة المأساة، عند الرابعة والثلث من فجر الاثنين السادس من فبراير 2023، فتروي في الكلام وكأنها تقرأ من كتاب الذاكرة «عند الرابعة والثلث بدأت خزانة الملابس أمامي تتحرّك، لم أستوعب بدايةً الأمر ما يحصل، اعتقدتُ أيّ شيء إلا أن يكون ما يحدث هو زلزال، لكن الأمر لم يترك مجالاً للشك، سحبتُ قدماي وأقدام أطفالي كي لا تسقط فوقنا خزانة ملابسنا، وهممتُ بالاتصال بزوجي الذي يعمل في دمشق، تلقى زوجي الاتصال، لكن ما حصل لم يترك لنا وقتاً للكلام، هي ثوان معدودة استحال المبنى إلى ركام متكدس فوق ركام».
تشرح لنا سوزان ما حاولت فعله بعد سقوطها من الطابق الخامس «كنت أضم يوسف بيميني، وسليمان بيساري، شعرتُ بشيء ما سقط علينا ليستقر فوق أطرافي اليمنى بالكامل، نظرتُ إلى يوسف لأجده مغطى بحجر كبير يمنعنا من الحركة، لكن أي أذى لم يصب سليمان. حاولتُ التحرك فواجهت صعوبة، لكني وبكامل أمومتي أصريت على النهوض لإنقاذ أطفالي، كنت كشخص مخدر لا يشعر بالألم إذ تحمّلت كل ثقل الحجارة المحيطة ونهضت ونهض معي سليمان، لكني لم أستطع أبداً إزالة الحجر من فوق يوسف، حاولتُ التكلّم إليه، لكن لا صوت قال لي ماما، ولا حركة. ركضتُ طالبة المساعدة من الجيران الذين علا صراخ بعضهم، وانشغل بعضهم الآخر بمساعدة العالقين تحت الركام، حاول جارنا إزالة قطعة ركام ضخمة عن يوسف، لكنها كانت تحتاج إلى قوة عدة رجال لإزاحتها».
تكمل سوزان «كل ذلك حصل في دقيقة واحدة.. ستون ثانية انمحت معها بيوت بأكملها عن خارطة المكان، وذهب ضحيتها أحباب لنا لم يخطر ببالنا أننا سنفارقهم بهذه الطريقة القاسية وبينهم حبيبي يوسف». نسألها عن عمره، فتدخل الأم في حالة بكاء مؤلمة، وتقول«اليوم كان سيتم العامين من عمره.. لم يمنحنا القدر فرصة للاحتفال بعيده الثاني، لا عيد ليوسف فوق هذه الأرض بعد الآن، عيده في السماء».
تمشي سوزان لتودعنا من أمام بيتها، وكأنما تستمرّ في استقبال ووداع الضيوف منه وإن كان أنقاضاً، تنظر إليه وتقول «إن سألكم أحد عن لحظة الزلزال، فقولوا بكلمة واحدة: الموت، لقد لامست الموت الذي نتكلم عنه في حياتنا، لم ألامسه فحسب؛ بل عشته حرفياً، نعم الزلزال كان موتاً بعمرِ دقيقة كاملة».
رجاء عدرة وعائلتها وسط الركام
"قرأ صغيري أحمد سورة الإخلاص ونام بعدها إلى الأبد"
تتقاسم الأمهات السوريات الناجيات من الزلزال الألم ذاته، السيدة رجاء عدرة، أم ثكلى دفنت صغيرها أحمد ابن خمس سنوات بعد أن قضى تحت الأنقاض، تعاني رعباً يومياً خوفاً من فقدان شقيقه «علي» الذي يقبع في قسم العناية المشددة بأحد مشافي مدينة اللاذقية القريبة، إثر سقوط جزء من المبنى فوقه أدى إلى إصابته بجراح بليغة، استدعت بتر يده حفاظاً على حياته. تحكي الأم المفجوعة «أزوره دائماً وأخبره أني بانتظاره كي يعود لنا أنا مع أبيه وأختيه، وأدعو الله ليلاً نهاراً كي يعود من جديد لي سالماً معافى»..
وتكمل «اختار الله ابني أحمد وردّه إليه، وأنا راضية بما كتبه الله لي، هو الموت واحد، لكن الطريقة التي فقدته فيها تؤلمني جداً، لقد كان طفلاً كالملاك، لطيفاً، حلو المعشر مع كل من حوله. من يصدّق أن طفلاً في الخامسة من عمره استطاع أن يلمّ شمل عائلة كان أفرادها على نزاع كبير، ليأتي بكل براءته وبمواقف عفوية ويبلسم جراح الأسرة ويجمع أبناءها مع بعضهم بعضاً بعد خصامٍ دام سنوات، ولم يفلح أكبر رجال العائلة في حلّه. أقول لنفسي إن أحمد أتى إلى هذه الحياة في زيارة قصيرة، لكنه فعل خلالها ما عجز الكبار عن فعله، لقد كان مصدر فخر لي ولأبيه، إني أشتاق له كثيراً».
عن تلك الليلة القاسية تروي عدرة «في اليومين اللذين سبقا الزلزال كنا كئيبين للغاية دونما سبب واضح، كنتُ أشعر أن هنالك شيئاً ما ليس مريحاً في الأجواء، ربما هو حدس الأم! لا أدري. حتى أن أحمد كان غريباً يبادر بأشياء لم نعتد منه أن يفعلها. عشيّة الأحد قبل الكارثة، ذهب أحمد إلى أبيه في محله التجاري الصغير القريب من البيت، وقال له ما لا يعبّـر به عادة: بابا.. أنا أحبّك، ثم لوّح له وصعد إلى المنزل، وكانت هي المرة الأخيرة التي يراه فيها. قبل النوم، طلب منّي أحمد أن أقرأ له آيات من القرآن الكريم، فقرأت له سورة الإخلاص، ورتلها معي، ثم نام.. لم يستيقظ بعدها حبيبي أحمد، نام إلى الأبد».
طبيبة الطواريء سهام مخول
طبيبة المشفى: كان يوماً عصيباً كئيباً لم نعد ندرك فيه الليل من النهار
دأبت فرق الإسعاف على نقل الضحايا، عند العثور عليها بين الركام في المواقع المتضررة من الزلزال، إلى المشافي القريبة سواء في جبلة أو مدينة اللاذقية القريبة، حيث لم يكن الوضع مختلفاً كثيراً بالنسبة للأمهات العاملات ضمن القطاع الصحي عقب الكارثة، إنما كان المطلوب سرعة اتخاذ قرارات عملية بعيدة عن العاطفة، لأن ذلك من الضرورات الإضافية التي يحتاج إليها الطبيب في كوارث كهذه تصيب البلاد.
تروي طبيبة الطوارئ سهام مخول، وهي مديرة أحد المشافي على الساحل السوري، «استيقظتُ على وقع الزلزال، كما هي حال كل أهالي مدينتي اللاذقية وجبلة القريبة. كنتُ وأبنائي في المنزل، شعرنا بقوة بالهزة، لكننا لم نتضرر، وبعد ساعتين من حدوث الزلزال طلبتُ من ابني أن يوصلني إلى المشفى لأكون على رأس عملي»، تضيف «أول الواصلين إلى قسم الإسعاف كانت طفلة رضيعة، لكنها كانت جثة هامدة». يتهدّج صوت الطبيبة الصابرة، وتحاول بثبات أن تتابع حديثها بكل هدوء «كانت الضحية الثانية التي رأيتها طبيباً مقيماً يعمل في المشفى الذي أديره، اسمه محمد متّى، كانوا يحملونه على النقّالة أمامي.. كانت الصدمة لا توصف، لاسيما أني كنت اعتبره أحد أبنائي. منذ اللحظة الأولى عرفتُ أنه متوفٍ، ومع ذلك حاولتُ أمام أبنائي الأطباء من زملاء محمد أن أدير عمليّة الإنعاش، لكن محمّد كان قد غادرنا منذ البداية. كنتُ في تلك اللحظة بين نارين، أريد بما أحاول أن أواسي زملاء محمد من الكادر الطبي، وفي الوقت ذاته عليّ أن أقرر، أوقفت محاولات الإنعاش فعلامات الموت محققة».
تصمتُ الطبيبة الأم وهي تتذكر بحرقة ما حصل «في لحظة إعلان الوفاة رسمياً شهدنا جميعاً لحظات حزن لن تمحى بدأت بصراخ مدوٍ من زملاء محمد الراحل، وانتهت بنقله إلى براد المشفى. كان يوماً عصيباً كئيباً لم نعد ندرك فيه الليل من النهار بسبب بقائنا في المشفى لأيام متتالية نعالج ما يردنا من حالات أصيبت جراء الزلزال.. إنها كارثة حقيقية.. وأيام لن تنسى».
العيش في العراء.. مصيبة أخرى
الناجية المعجزة من زلزال سوريا بعد 122 ساعة تحت الأنقاض
السيدة ضحى نور الله، الناجية المعجزة بعد خمسة أيام من بقائها تحت أنقاض بناء الريحاوي في مدينة جبلة، نجا معها وحيدها إبراهيم زكريا، فيما قضت ابنتها راوية تاركة غصة في قلب أمها إلى الأبد. لا تقوى السيدة ضحى على الحديث كثيراً فهي لا تزال في قسم العناية الخاصة بأحد مشافي مدينة اللاذقية، وترفض أن تُلتقط لها صورة، غير أن ذكرى ابنتها راوية ترافقها طوال الوقت؛ إذ بقيت معها طوال خمسة أيام تحت الركام غير أنها كانت جثة هامدة.
أم حسيب
"شهدت حروباً لم يهتز لي جفن، غير أن ليلة الزلزال كانت ليلة رعب"
السيدة أم حسيب، وهي امرأة سبعينية رفضت أن تغادر منزلها المتشقق بعد الزلزال، يناديها أهل الحي بـ «مختارة الحارة»، وهي من سكان حي الغراف في منطقة الرمل الجنوبي بمدينة اللاذقية، واحد من أكثر المواقع تضرراً جراء الزلزال، لا تزال لحظات الزلزال حيةً في ذاكرتها كما كان عند لحظاته الأولى.. تقول «عند الساعة الرابعة والثلث فجراً صار سرير نومي يتحرك بشدة، وأخذت قطع الأثاث في الغرفة تتساقط على رؤوسنا، ويتساقط معها الرعب والخوف، ضغط وأصوات كالانفجارات، لم نعد نعرف كيف نفتح الأبواب لنهرب، وعندما فتحنا باب البيت وهرعنا إلى الشارع هرباً من الجدران المتساقطة، كان المطر ثقيلاً والبرد والصقيع في كل مكان، لم أخف في حياتي كلها كما خفت في تلك الليلة، أقول لك بصدق أنا كنت شاهدةً على حرب عام 1967، لكني لم أخف في ذلك الوقت ولم يهتز لي جفن، لكن عند حدوث الزلزال خفت، خفت كثيراً، وصرت أتضرع إلى الله «يا رب دخيلك تتلطف بالبلاد والعباد». لا تغادر السيدة أم حسيب منزلها المتشقق بانتظار تأمين مسكن آخر لها في آخر العمر.
أم ابراهيم وعائلتها داخل مركز إيواء
"علّمنا الزلزال أن الحياة قصيرة والعمر قد ينتهي بغضب الطبيعة لو لدقيقة واحدة"
صبر عظيم تحمله الأمهات السوريات الناجيات من الكارثة، تحكي السيدة أم إبراهيم (وقد اكتفت بالتعريف عن نفسها بهذا الاسم)، «حين اهتزت الأرض من تحتنا، كان زوجي في العمل، وأنا والأطفال وحدنا في المنزل. اعتقدتُ أن هذه الأصوات مردّها إلى شدة البرق والرعد في الخارج.. لكن، ومع اشتداد اهتزاز الأشياء من حولي، بدأت أفهم أن ما يحصل قد يكون هزة أرضية. حينها، لم أفكر بشيء سوى كيف سأحمي أطفالي، ركضت بهم ونزلنا إلى الشارع. بعد انتهاء الهزة واستقرار الأمر بعض الشيء، نظرت إلى أطفالي فوجدتهم بلا معاطف تحت السماء التي كانت حينها تمطر بغزارة، صعدت إلى المنزل من جديد وجلبت لهم أغطية وملابس إضافية، حاولتُ بثّ بعض الدفء في أجسادهم عبر ضمّةٍ من جسدي المرتجف».
تكمل السيدة الناجية «مجرّد احتمالية أن يعاد ذلك الشعور المرافق للزلزال مرة ثانية دفعتني إلى البقاء في الشارع مع أطفالي، كما كان حال الناس الهاربين من بيوتهم واللاجئين إلى الشوارع، الفرق أن كثيراً من الناس كانوا في سياراتهم يدرؤون عن أنفسهم المطر الغزير، لكننا لا نمتلك سيارة، حميت أطفالي بجسدي. جلسنا على هذا الحال حتى جاء ذلك الصباح المؤلم فأتينا إلى مركز الإيواء هنا ريثما يتحقق المعنيون من سلامة منزلنا». تدمع الأم الجبارة وتنظر إلينا قائلة «على الرغم من كل ما حصل، أشكر هذا الظرف القاسي، الذي ورغم صعوبته فتح لي باباً جديداً لطريقة تعامل مع أبنائي، زاد من حنيّتي على أطفالي. أتذكر ما حصل، وأستشعر كم أن الموت قريب.. قريب جداَ.. علّمنا الزلزال أن الحياة قصيرة والعمر قد ينتهي بغضب الطبيعة لو لدقيقة واحدة».
هيام حمامي
جامع السلطان التاريخي.. مأوى السكان من كل الأطياف
النزوح بعد الزلزال يعم على الجميع كنزوح الحرب، الفرق أن بعض السوريين اختبروه مرة وآخرون اختبروه مرات.. منهم «هيام حمامي» سيدة حلبية لجأت إلى مدينة جبلة في الساحل السوري إثر العمليات الحربية في حي الكلاسة بمدينة حلب شمالي البلاد، تعيش حالياً نزوحها الثاني مع عائلتها بعد الزلزال، في جامع السلطان إبراهيم الأدهم بمدينة جبلة وهو واحد من أقدم الجوامع في البلاد، كان طوال مئات السنين محجاً لسكان المدينة من كل الأطياف، أما اليوم فأصبح مأوى للمشردين من كل الأنحاء جراء الزلزال.
نجت السيدة هيام مع ابنتها وزوجها من بيتها في الطابق الخامس بأحد الأبنية المتضررة بجبلة، تتذكر ذلك الفجر «نتيجة ضيق الحال ننام على الأرض، فجأة صرنا نهتز أنا وابنتي وزوجي، وخشينا أن يهبط السقف على رؤوسنا، بدأنا بالركض على درج البناء وهو يتأرجح شمالاً وجنوباً، وأخذت بالصراخ «يالله» حتى وصلنا إلى الشارع، حالنا كحال كل الناس الذي تركوا بيوتهم، نزلنا من دون غطاء وحفاة في ذلك الفجر البارد.. نقيم الآن في جامع السلطان على أمل أن نعود إلى بيتنا».
تحقيق: صفاء مكنّا وشذى الموعي
تصوير: وسيم محمد
* نشر التحقيق كاملاً في مجلة كل الأسرة العدد (1533) لشهر مارس 2023