أعلنت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» أسماء رواد الفضاء الأربعة الذين سيشاركون في مهمة «أرتيميس 2» في العام المقبل. وبين الأربعة امرأة وحيدة هي كريستينا كوتش، إنها أول امرأة تقوم برحلة نحو كوكب القمر.. من هي هذه الرائدة الأميركية التي أمضت سنوات من التدريبات الشاقة في انتظار هذه الفرصة التي ستدخل بها التاريخ؟
من المقرر أن تدوم رحلتها نحو القمر 10 أيام. لكن كريستينا كوتش انتظرت سنوات في سبيل بلوغ هذه الرحلة. يرافقها في مهمتها 3 زملاء من رواد الفضاء. لكنها المرأة الأولى التي ستقوم بمهمة في رحلة قمرية. وهنا لابد من التوضيح: فالرائدة الأميركية لن تنزل على سطح الكوكب، كما أن زملاءها لن يضعوا أقدامهم عليه. إن مهمتهم هي الدوران حول القمر للتحضير لعودة الإنسان إلى النزول مجدداً على سطحه. ومن المعروف أن أول رحلة إليه تمت في عام 1972، وشاهد العالم كله صور الرائد نيل آرومسترونج وهو يخطو بقدميه أول خطوات بشرية على أرض الكوكب الفضي الذي تغنى به الشعراء.
تنوي «ناسا» إنشاء قاعدة هناك وبناء محطة فضائية في مدار القمر. ومهمة «أرتيميس 2»، كما يشير اسمها، هي الثانية من برنامج يسعى لتحقيق هدف إقامة المحطة الفضائية الجديدة. ويخطط العلماء لعودة الإنسان إلى القمر خلال سنتين من الآن. والخطوة الأولى هي وضع مركبة فضائية تحمل اسم «أوريون» في مدار ذلك الكوكب.
لماذا كريستينا كوتش؟
الحقيقة أن رحلتها المقبلة إلى مدار القمر ليست الأولى التي ستدخلها التاريخ. فقد سبق لها وأن دخلته بعدما نفذت أطول رحلة في الفضاء تحققها امرأة. فقد أمضت رائدة الفضاء التي تعمل في وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» 328 يوماً متتالياً في الفضاء حتى الآن، محطمة بذلك الرقم القياسي الذي كانت بيجي ويتسون قد سجلته لدى عودتها إلى الأرض بعد رحلة استغرقت 288 يوماً.
وحتى هذا الرقم لم يكن القياسي الأول الذي تسجله في مسيرتها الفضائية. فهي خلال رحلتها الطويلة سجلت رقماً قياسياً آخر، إذ نفذت برفقة زميلتها جيسيكا مائير أول مهمة سير فضائية اقتصرت على النساء انطلاقاً من «محطة الفضاء الدولية»، وذلك في خريف 2019، في خطوة جريئة تناقلتها وكالات الأنباء في العالم كله.
شاركت كوش في 6 رحلات فضائية. وأجرت بحوثاً علمية خلال مكوثها الطويل، نسبياً، هناك. أما الرقم القياسي التاريخي لرحلة فضائية واحدة فيبلغ 438 يوماً وسجله رائد الفضاء فاليري بولياكوف عام 1995. أما زميلتها بيجي ويستون فتحتفظ بالرقم القياسي للمكوث أطول مدة في الفضاء في سلسلة من الرحلات، إذ قضت 666 يوما بعيداً عن كوكب الأرض وذلك في خمس رحلات مختلفة.
تبدو كريستينا كوش إنسانة جرئية لا تخشى المغامرة. لكنها الجرأة المحسوبة جيداً. وسبق لها في مقابلة مع قناة «سي إن إن»، أجريت مباشرة من محطة الفضاء، أن قالت «افعلوا ما تخافون من فعله. ينبغي على كل شخص التفكير فيما يثير فضوله ويدفعه قدما. إن تلك الأمور قد تبدو مخيفة قليلاً ولكنها تعني أنكم شغوفون. وإذا كان ذلك خارج دائرة ما تعتقدون ان بوسعكم تحقيقه، فهو سيأتي بالثمار أضعافاً مضاعفة ويمكن أن يحقق لكم مكاسب شخصية، كما أنه يعني عادة أنكم تردون للعالم بعض جميله وبأفضل طريقة ممكنة».
في المؤتمر الصحفي الذي نظمته «ناسا» مؤخراً في هيوستن، قالت كوتش «تسألونني إن كنت متحمسة للرحلة نحو مدار القمر. وجوابي هو نعم بالتأكيد. واسمحوا لي بأن أعيد طرح السؤال عليكم. لأن ما يحمسني هو معرفتي بأن حماستكم وتطلعاتكم وأحلامكم سترافقنا في رحلتنا».
بداية كريستينا كوتش من الحلم
في غضون عقد من الزمان، ارتادت هذه المرأة البالغة من العمر 44 عاماً الفضاء 6 مرات. ورغم تقدمها النسبي في السن فإنها ما زالت تمتلك المواصفات الجسمانية والنفسية لهذا النوع من الرحلات. فقد كانت مهندسة ميكانيك على متن محطة الفضاء الدولية حين نفذت أطول رحلة لامرأة في الفضاء آنذاك. كما نفذت أول نزهة نسائية خارج المركبة. فهل حققت تلك الطفلة المولودة في ولاية مشيجن كل أحلامها حين كانت تبحث عن النجوم في ليالي الصيف الصافية؟
منذ الصغر، كنت من النوع الذي يحب دفع الحدود إلى آخر مدى
تقول اليوم إنها لا تذكر لحظة واحدة من صباها لم تحلم فيها بأن تكون رائدة فضاء. وهي قد بدأت تطرح، في سن مبكرة، أسئلة كبيرة حول حجم الكون ومحتوياته من الكواكب، وحول موقع سكان الأرض منه.
من يستمع إليها يتأكد من أنها كانت شابة مليئة بالآمال منذ بداياتها. ومما قالته في تسجيل مصور لها قبل 3 سنوات «منذ الصغر، كنت من النوع الذي يحب دفع الحدود إلى آخر مدى. ولطالما كانت السماء مصدر إلهام لي في الليالي. وخلال عملي توصلت إلى توازن ما بين الهندسة في مجال الفضاء وبين التجارب العلمية التي تجري في أماكن نائية من العالم».
حصلت كوتش على شهادة «ليسانس» في الفيزياء والهندسة الكهربائية. ثم «الماستر» من جامعة ولاية كارولينا الشمالية. وحال التخرج باشرت العمل كمهندسة كهرباء في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لـ «ناسا». وساهمت خلال عملها في تطوير الأجهزة العلمية المستعملة في مهمات فضائية معينة. لكن طموحها كان يأخذها إلى ما هو أبعد من الاشتغال في المكاتب والمختبرات. وما بين 2004 و2007 عملت باحثة في البرنامج القطبي الأميركي. وهو برنامج يقوم على إجراء تجارب حول إمكانية العيش سنة كاملة في محطة أبحاث في القطب الجنوبي.
خلال تلك الأبحاث أمضت كريستينا كوتش أشهراً بدون أن ترى الشمس، مع فريق محدود من الزملاء، حيث لا رسائل تصلهم ولا مأكولات طازجة. وتروي أن تلك التجربة في البعد عن العائلة والأصدقاء أجبرتها على وضع خطة لحماية توازنها العقلي والنفسي. عادت من القطب، في عام 2013، لتعمل مهندسة في قسم الفضاء بجامعة جون هوبكنز. إنها الفترة التي رأت فيها حلم الطفولة يتحقق: لقد تم قبولها في أكاديمية «ناسا»، الدفعة 21، والدراسة سنتين لتأهيلها لكي تصبح رائدة فضاء. ومنذ تخرجها نفذت عدة طلعات في الفضاء. وكانت توثق يومياتها من خلال حسابها في «إنستجرام» حيث يبلغ عدد متابعيها 435 ألف شخص. ويراها هؤلاء وهي تمارس رياضاتها المحببة: تسلق الجبال والتزلج على الماء وركوب الزوارق الشراعية. كما تنشر صوراً من فترات إقامتها في المحطة الفضائية الدولية. وأول متابعيها هو زوجها روبرت وكلبهما الوفي.
تدرك كريستينا كوتش أنها امرأة محظوظة في مهنة لا تتجاوز نسبة النساء فيها 11 في المئة. لذلك فإنها تنشر تغريدات مستمرة تطالب فيها بالعدالة بين الجنسين في مجال الفضاء. وهي قد كتبت في اليوم المخصص لدور الأميركيات في التاريخ تقول «علينا أن نعتاد رؤية النساء في المحطة الفضائية الدولية. وهذا أمر مهم لأن من الضروري بناء عالم يتيح للجنسين تحقيق أحلامهم بالتساوي».
حين سافرت كوتش خارج الأرض، كان هناك 72 رجلاً قد سبقها بارتياد الفضاء. وحتى اليوم لم تطأ أي امرأة سطح القمر.