15 مايو 2023

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

كاتبة صحافية

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

لنقل إن اسمها كلير وهي فرنسية تعترف بأنها مدمنة تبادل المنشورات وقضاء الساعات في متابعة «فيسبوك» و«يوتيوب» و«تيك توك»، وبقية المواقع الخلابة والكائنات الافتراضية والصداقات مع آلاف الأشخاص الذين لم تلتق بهم في حياتها، لكن اتصالها المفضّل يبقى مع موقع واحد ترى أنه يفتح لها آفاقاً للعمل. إن وراء هذا الهوس مكاسب وعائدات لبعض البارزين والبارزات في سباق جمع أكبر عدد من المتابعين. ماذا يجري وراء الستار؟

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

إدمان «لينكد إن» يثير قلق العائلات

تبدأ كلير كلامها بالقول بما يشبه الانتصار: «اليوم دخلت على موقعي المفضل 17 مرة فقط!»، والموقع المقصود هو «لينكد إن». إنها تطلع من خلاله على الفرص المتاحة للعمل والتواصل مع أشخاص ملهمين، وإمكانية عقد صفقات أو شراكات أو مجرد أحلام متبادلة. ومنذ شراء شركة «مايكروسوفت» لهذا الموقع عام 2016، بات «لينكد إن» وسيلة التواصل الأقوى لأصحاب المهن إلى الحد الذي قاد كثيرين إلى الإدمان عليه. وهي خطة مدروسة ومتطورة تعود على أصحابه بالأرباح، بفضل الكمية الهائلة من المعلومات التي يجمعها من مشتركيه.

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

إن لهذا النوع من الإدمان «العصري» أطباءه في فرنسا. وهو يثير قلق ملايين الآباء والأمهات الذين لا يعرفون كيف يمنعون أبناءهم من الشاشات، لكن كلير في وادٍ آخر. فهي ليست طفلة ولا مراهقة؛ بل امرأة بالغة تعرف كيف توجّه دفة حياتها، وهي عندما تقول إنها لم «تتصل» سوى 17 مرة في ذلك النهار، فهذا يعني أن هناك مشاغل أخذت وقتها. إنها تشغل وظيفة إدارية مهمة في شركة للاستثمارات. أما نشاطها على الشبكة فيشبه حاجة المدخن إلى سيجارة. إنها تضغط بشكل آلي على أزرار الحاسوب وتنسى نفسها هناك. وقد قامت بتعطيل خاصية حساب الوقت الذي تمضيه أمام الشاشة. هل يقلل هذا من شعورها بالذنب مثل المدخن الذي لا يحب رؤية عدد أعقاب السجائر المتراكمة في المنفضة؟

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

كيف جذب «لينكد إن» ملايين المستخدمين؟

لو دخلنا على حساب كلير نجد القليل من المعلومات عن سيرتها، فهو خالٍ من صورتها. كما أن منشوراتها قليلة وبمعدل منشور واحد في الأسبوع. وغالباً ما يكون المنشور مشاركة لإعلان يخص شركتها، وتقول: «أنا أستقبل أكثر مما أبثّ. وعادة ما أتابع ما يقوم به المنافسون وألتقط الأساليب الجيدة من هنا وهناك، وأربط علاقات تنتهي غالباً بمواعيد تخدم عملي. إن عدداً من عملياتنا الكبرى انطلقت من تعليق على لينكد إن»، تلك الروابط هي سبيل الكثيرين للعثور على عمل. فالموقع منذ إنشائه عام 2003 يمنح هذا الوعد بفضل الشبكة الواسعة من المهنيين الذين يشتركون فيه. وبين عامي 2005 و2012 تضاعف عدد مستخدميه حتى بلغ 200 مليون مشترك.

في عام 2016 اشترت شركة مايكروسوفت الموقع مقابل 2.6 مليار دولار. وكان الهدف تطويره بحيث أصبح واحداً من أكثر المواقع شعبية على الشبكة، لكنه ليس موقعاً للتسلية، هذا ما أوردته عنه صحيفة «الواشنطن بوست». ومنذ ذلك الوقت تغيرت طبيعته وتعددت قوالبه وخدماته: أحجام النصوص والتسجيلات المصورة أو الصوتية التي تتاح قريباً، كما تم تكوين فريق، مهمته إنشاء محتوى ووضع قائمة بأسماء الأشخاص المؤثرين؛ أي خاصية «التوب فويس» حول موضوعات محددة، وكذلك تقديم النصائح للمستخدم لكي يوسّع شبكة متابعيه.

والنتيجة أن الموقع يجمع حالياً 800 مليون مشترك، بينهم 20 مليوناً في فرنسا، لكنه لا ينشر أعداد المستخدمين النشيطين كل شهر ولا عدد ساعات الاتصال التي يقضيّها أحدهم في الموقع، لكن المشرفين عليه يتابعون بعين الراحة تزايد المبادلات المدعومة. وتؤكد ساندرين شوفان، مديرة التحرير في أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، أن المحادثات العامة ارتفعت بنسبة 21% خلال شهر واحد من صيف 2021، بالمقارنة مع الفترة نفسها من السنة السابقة.

شهادة «من أهل لينكد إن»

يقول عدد من المشتركين إنهم أصبحوا مدمنين على المنشورات التي توضع على الموقع، وعلى تبادل التعليقات العامة أو الرسائل الخاصة، وهو أمر بعيد عن سطحية موقع «إنستجرام» مثلاً. وهناك كثير من الجدية والإخلاص واللطف والأصالة. هذا هو أيضاً رأي ميليسا عصماني، مستشارة الاتصالات وإحدى المستخدمات المدمنات على الموقع منذ أن أصبحت تمارس تقديم الاستشارات بشكل مستقل؛ أي «فري لانس». ويمكن وصف كلامها بالقول: «شهد شاهد من أهلها»، ومع هذا فهي لا تتوقف عن كيل الثناء وتقول إنها تشعر بأنها محاطة بشكل طيب ولا تشعر مطلقاً بأن اتصالاتها مضيعة للوقت؛ بل تساعدها في الحصول على زبائن جدد. ومع هذا تعترف بأنه ليس من المواقع الممتعة أو المسلية.

اعترافات مثيرة من مدمنة مواقع التواصل

نصيحة للتخلّص من إدمان مواقع التواصل

للسيطرة على الإدمان، تقدّم ميليسا النصيحة التالية: «النشر في الصباح، ومتابعة شريط الأحداث عدة مرات خلال النهار ثم العودة له ليلاً، بهدف عدم ترك أي رسالة بدون جواب. ففي هذا الموقع لا يمكن للمستخدم أن يسجل حضوره بدون أن يتفاعل مع الآخرين. إنه مثل مؤسسة تدافع عن علامتها التجارية. كل واحد من العاملين يعتني بصورته، ويسعى إلى جذب اهتمام مساهمين وشركاء مفترضين. إن المستخدم يدرك أن هويته العملية أو المهنية يجب أن تكون خصوصية ومعتمدة على مهاراته ومؤهلاته».

نعود إلى كلير، فهي على الرغم من تعلقها الشديد بالموقع، تعرف أن هذا الأمر لا يمكن أن يستمر. فهي لن تمضي عمرها وهي قابضة على هاتفها وعينها على شاشته، لكن ارتباطها بالشبكة يمنحها الإحساس بأنها إنسانة منتجة. وهو ارتباط ليس عفوياً، فهي تتحصن بأحدث شبكات الاتصالات وتخطط جيداً لمنشوراتها وتحرص على حسن صياغتها، وبعد ذلك تنتظر النتائج أي الردود. وطبعاً، فإن هذا التواصل يقع في صلب عملها كموظفة في شركة للاستثمارات مسؤولة عن العلاقات العامة، وقد تعلمت من متابعة منشورات الموقع بعض مفاتيح ومهارات التفاوض حول المرتبات، مثلاً. ومع الوقت باتت قادرة على تبادل الخبرات مع مئات الأشخاص في مجموعات محددة لكي تكون «منظورة» أو مرئية بشكل أفضل على الشاشة.

ملصق فيلم «جيل الشاشات»
ملصق فيلم «جيل الشاشات»

ماذا يتبقى من شخصية مدمن الشاشات؟

تنام كلير وتصحو على الموقع. هاتفها يشاركها فراشها. وهي لا تنقطع عن التواصل مهما كانت الحالة والظروف. لا يعيقها عشاء عائلي ولا سفرة لقضاء إجازة للراحة. إن «لينكد إن» يطفو فوق موجة كبيرة ويمحو الحواجز ما بين الشخصي والعمومي. وقد ضاعفت الجائحة قوته. فمنذ ثلاث سنوات تقلصت الحياة الاجتماعية وعلاقات العمل الواقعية وانتقلت اللقاءات إلى الشاشات.

هل ينبغي للهوية العميقة والحميمة والمعقدة أن تفسح المجال لشخصية مهنية؟ ما الذي يتبقى من شخصية كل شخص عندما يمر عبر غربال من الأصالة المرحلية، وتجري تصفيته بواسطة علامات التصنيف الصحيحة ويتم طحنه بواسطة خوارزمية فائقة التعقيد؟ إن للموقع خاصية تقوم على أنه يقدّم المحتوى أولاً إلى عينة من الأعضاء، ثم يجري تقييم مستوى جودته وتصنيفه، وفقاً لردود الفعل التي يثيرها.. كلما زادت علامات الإعجاب به أو التعليق عليه أو مشاركته، زادت ترقيته وتزكيته للمستخدمين الآخرين. وبالضبط، فإن هذا هو النظام الذي يجعلك تخسر الكثير من الوقت معه؛ أي أن تدمنه.

بدون الدخول في تعقيدات التكنولوجيا وما صرنا نبحث عن معناه من مفردات جديدة مثل «الخوارزميات»، فإن هناك أوهاماً كثيرة تتسرب إلينا. فما بات معروفاً بالذكاء الاصطناعي، هو عالم غامض وعميق، ومجهول ولا يتوقف عن إدهاشنا كل يوم. تشعر كلير بأنها والملايين من أمثالها يمكن أن يصبحوا عبيداً لهذه المواقع. إنها تراقبهم وتعرف نقاط اهتمامهم ولها قائمة بعلاقاتهم واتصالاهم وأصدقائهم وأذواقهم وأعمارهم وعناوينهم وأرقام هواتفهم. تطلب رقم طبيب للأسنان فتنهال عليك إعلانات عيادات أطباء الأسنان. تبحث عن غرفة في فندق فتنفتح أمامك عشرات الفنادق التي لم تطلبها والبلدان التي لن تسافر إليها.

كل ذلك تعرفه كلير ويقلقها، لكنها ليست مستعدة للتخلي عن هذا «الهمّ» الجميل الذي يشغل يومياتها. إن المستخدمين هم عائلتها، ولعلها تشعر بأنهم يساندونها، حتى لو لم تلتق بأي منهم ولا تعرف مدى صحة صفاته والمعلومات المنشورة عنه. كما أنها مستفيدة عملياً من الموقع، وهو يثريها في مجال تخصصها. وعندما يُطرح عليها السؤال: «هل تحتاجين إلى طبيب يعالجك من إدمانك الشاشات؟»، تهز رأسها بشكل لا نفهم منه هل الجواب بالسلب أم بالإيجاب.