02 يوليو 2023

تباشير الرطب.. موسم حصاد "الزاد والهدية والضيافة"

محررة في مجلة كل الأسرة

تباشير الرطب.. موسم حصاد

مع شهور القيظ التي تشهدها دولة الإمارات من شهر يونيو إلى أغسطس من كل عام، يعود موسم الرطب، هذه الثمرة التي تربطها بأبناء المنطقة العربية علاقة وثيقة تعود لتاريخ طويل من المحبة والتقدير لها، وللنخلة التي أطلقوا عليها الكثير من الألقاب مثل «الشجرة الأم» و«الشجرة المباركة» مكانة مهمة لما تقدمه من عطاء، فثمارها كانت ولا تزال غذاء أساسياً لهم ومصدراً حيوياً للطاقة كما أن لسعفها وفروعها فوائد متعددة. ويأتي موسم جني «خرف» الرطب حاملاً معه الخير والبشرى بعد فترة انتظار طويلة للمزارع يحرص فيها على رعاية مزرعته يقوم بتلقيح النخيل وسقايتها والاهتمام بها مترقباً «عذوقها» وهي تنضج حبات الرطب الأولى ليهدي منها الأهل والأصدقاء والجيران، معلناً قرب نضج وجني الأصناف الأخرى.

سريعة سعيد دلموك المهيري
سريعة سعيد دلموك المهيري

لكون النخلة مصدر الرزق الأول للكثير من الأشخاص قديماً، فهي تعلن بنضوج خيرات ثمارها عن قدوم موسم الفرح لأشخاص ارتبطوا معها بعلاقة وثيقة. فقد حرصت الوالدة سريعة سعيد دلموك المهيري على أن تكون لها مزرعتها الخاصة، تبدأ العمل فيها بعد صلاة الفجر بتوجيه العمالة المساعدة نحو المهام التي عليهم متابعتها كالاهتمام «بالعثوج»، وسقاية النخل ورشها بالمبيدات الحشرية وترتيب التمور وتنظيفها. عشقت الوالدة المهيري النخلة منذ أن كانت طفلة ترافق والدها وإخوتها إلى منطقة الجميرا حيث كانت مزرعتهم، تقول «بالرغم من صعوبة الزراعة في ذلك الوقت، حيث لم تدخل التكنولوجيا بعد ولم تكن هناك «موتورات الداينمو» حيث كنا نسقي النخيل من ماء البئر، ورغم الجهد إلا أنا كنا نستبشر دخول موسم القيظ ليعلن قرب موسم حصاد التمر»، تضيف «في موسم التباشير كنا نحرص على «تخريب» حصاد الرطب في الصباح الباكر وتوزيعه على الأطفال والجدات من كبار السن والجيران والمقربين وتقديمه للضيوف فرحاً بموسم نضوجه».

عملت المهيري على استغلال هذا الموروث بالشكل الصحيح من خلال تأسيس مصنع لبيع التمور المعلبة والمشاركة في مسابقات التمور، حيث حصلت على المركز الأول في نوع الرطب الخلاص خلال مشاركتها في مزاينة المرموم للرطب عام 2022 وتعمل على نقل هذا الموروث لأبنائها، إذ تشارك ابنتها جميع أعمال المزرعة «أمتلك مزرعتين في منطقة ليوا في مدينة أبو ظبي تضمان ما يقارب ألف نخلة تنتج أجود أنواع التمور من الخلاص والزاملي والشيشي الأكثر طلباً إضافة لنبتة المزروعي ونبتة سيف».

الحاي علي سلطان السبوسي
الحاي علي سلطان السبوسي

الرطب هدية وضيافة

يشبه الحاي علي سلطان السبوسي مراحل الاهتمام بالنخلة بمراحل الاهتمام بالطفل وهو يتكون في بطن أمه، يبين «للرطب طقوس خاصة يمارسها المزارع تبدأ من التلقيح والتسميد ومكافحة الحشرات وترقب العذوق المحملة بالثمار ليقطف أول حبة رطب معلناً عن دخول موسم الحصاد الذي يرافق شهور القيظ».

يدأب الحاي، الذي حرص على مشاركة والده مراحل الاعتناء بالنخيل وحصاد الثمار «الخرافة» وهي عادة حرص القدماء على نقلها لأبنائهم، على الاعتناء بمزرعة والدته وزراعة أنواع مختلفة من التمر منها الخلاص والخنيزي والبرحي واللولو وأصناف كثيرة أخرى، يوضح «نستبشر بأولى حبات رطب النغال والتي يكشف جنيها جاهزية الثمار للحصاد، ليتم توزيعه على الأهل والجيران والمقربين لإضفاء البشرى والسرور بموسم القيظ والرطب، وهي عادة متوارثة نحرص على القيام بها لغرسها في نفوس أبنائنا من الجيل الجديد»، ويشير لحاجة النخلة للاهتمام المستمر على مدار العام ليكون إنتاجها بكميات معقولة ونوعية جيدة تستحق تقديمها هدية أو ضيافة تليق بالضيف «تبيض الوجه».

فيما تضيف والدة الشاب الحاي علي سلطان السبوسي، صاحبة المزرعة، «لم نكن نعرف قديماً أكل العيش أو أصناف الفواكه الأخرى فقد اقتصر زادنا على أكل الرطب واللبن صباحاً واللحم والرطب وقت الغذاء، فهو غذاء يمكن تخزينه بسهولة ويناسب جميع الفصول»، وتصف النخلة «النخلة هي الشجرة الوحيدة التي لا يرمى أي جزء منها، تجود علينا بعطائها، فهي رمز حياتنا، لا تقل أهمية عن الأسماك واللآلئ بالنسبة للصياد».

تباشير الرطب.. موسم حصاد

النخلة.. أبرك شجرة وأفضل زاد

كما التقينا حمده علي الهاجري، التي حرصت وإخوتها على التمسك بمزرعة النخيل إرثهم من والدهم صاحب أول مزرعة نخيل في منطقة الهباب في دبي، وتبين «النخلة أبرك شجرة يمكن أن يزرعها الإنسان، فيها من الخير ما يتجاوز صاحبها ليصل للأهل والمقربين والأصدقاء والجيران، ويستمر الخير منها منذ جني الأصناف المبكرة وحتى جني الثمار الأخرى بعد اكتمال ترطيبها ليكون زاداً لما يتبقى من مواسم السنة».

توضح الهاجري «أردنا السير على خطى والدي في جني أجود أنواع الرطب التي تستحق أن نأكل منها ونهديها للأحبة والمقربين بالحرص في الاهتمام بالنخلة وإغداق الإنفاق عليها»، تضيف «لدينا ذكريات جميلة حينما كنا نشارك والدي جميع مراحل نمو الثمار نراقبها وهي تنمو، حيث يبدأ الداموك بالسقوط معلناً دخول موسم القيظ ومن ثم نرقب موسم رطب «النغال» حيث تزدان البيوت بالفرح والسعادة لقدوم موسم الخير الذي يمكن وصفه بموسم العمل والعطاء حتى بالنسبة للأطفال الذين كانوا يشغلون أوقاتهم في جمع الرطب والتمور المتساقطة على الأرض».

تباشير الرطب.. موسم حصاد

فيما يشير المزارع محمد الكتبي لأهمية الرطب كونه من أهم المنتجات الزراعية التي لم يخل منها بيت إماراتي قديماً بسبب الظرف المعيشية التي كان يعيشها السكان قديماً، «لإمكانية تخزينه فترات طويلة وأكله طوال العام بعد تجفيفه وتخزينه بطريقة يتبعها السكان المحليون، إلا أنه وبعد ما حدث من تطور في المجتمع لا يزال محافظاً على مكانته في صدارة الموائد لما له من قيمة غذائية عالية إضافة لكونه رمزاً من رموز الضيافة التي لا يمكن أن تكتمل دون تقديمه مع القهوة. وموسم قطف «النغال» أو ما يعرف بالبلح ما هو إلا بداية موسم تباشير جني أنواع أخرى تتبعه من الرطب كالخلاص والشيشي واللولو وغيرها».

أحمد محمد عبيد
أحمد محمد عبيد

ارتباط تاريخي وثيق مع النخلة

وعن علاقة المواطن الإماراتي بالنخلة، يكشف الكاتب والشاعر والباحث في مجال التراث أحمد محمد عبيد «ارتبط المواطن الإماراتي قديماً بالزراعة ارتباطاً وثيقاً سواء كان من قريب أم من بعيد، الارتباط القريب هو ارتباط حياة ومعيشة لا يفارقه صاحب الأرض من مزارع النخيل وأراضي الزراعة الموسمية (الضواحي) التي تزرع فيها الخضراوات الموسمية، والحبوب، سواء كان مزارعاً لا يعرف غير الزراعة، أم مزارعاً له حرفة أخرى كالصيد والرعي. فكان هناك مزارعو النخيل في المناطق الساحلية والريفية في السهول، ومزارعو النخيل في المناطق الصحراوية والواحات، وكلما كان المزارع أكثر قرباً للمناطق الساحلية أو مناطق وجود المياه من آبار وأفلاج كان التصاقه بالزراعة أكبر».

تباشير الرطب.. موسم حصاد

وعن أهمية الرطب، يوضح عبيد «كان الرطب أو التمر المحصول الأهم في شتى مناطق الدولة باعتباره الغذاء الأول لكافة الناس، بينما كانت المناطق الجبلية البعيدة تزرع النخيل والمحاصيل الموسمية كالقمح والشعير، والمناطق الزراعية المعروفة الساحلية والريفية والواحات تزرع الخضراوات والحبوب والنخيل، عرفت المناطق الجبلية بزراعة الغليون، كانت بشرى القيظ مصدر فرحة لأهل النخيل بالذات، فهم يترقبون موسم نضج النخيل بفارغ الصبر، بينما تنتشر الأنواع المبكرة في مناطق عديدة من دولة الإمارات مثل أصناف «النغال» و«الصلاني» و«الخاطرة» و«المزناي» وغيرها، يقوم أصحاب النخيل ببيع بعضها أو توزيعها أو حملها إلى المدن أخرى لا تتوفر بها، حيث كان الرطب أهم المحاصيل، ثم يأتي من بعده موسم نضوج فواكه أخرى المانجو«الهمبا - الأنبا»، والجوافة، والزيتون، والليمون الحلو«السفرجل» وغيرها، ثم المحاصيل الموسمية المهمة مثل الحبوب، والفواكه التي تثمر طوال العام مثل الموز والتين والرمان والفرصاد «التوت».

يضيف عبيد «توافر مقومات الزراعة القديمة والحفاظ على تنوع المنتجات وإقامة المهرجانات التراثية والاستعانة بخبرات المختصين والمسؤولين في المجال السياحي والزراعي، يساهم في أن تكون هذه المزارع بديلاً سياحياً ناجحاً يغني عن السفر خارج الدولة».

* تصوير: السيد رمضان