إزاء «بطولات» الذكاء الاصطناعي التي تسمح بالإجابة عن أي سؤال بكبسة زر، لماذا يتعيَّن علينا بعد أن نتعلم؟ إنها أزمة معنى تطال عملية التعلُّم والتي سرعان ما ستواجهها المدرسة والإنسان معها عموماً.. أزمة «ما الفائدة؟»، ما فائدة أن نتعلم العزف على الموسيقى حينما نستطيع بكبسة واحدة أن ننتج قطعة موسيقية من أي نوع مستعيدين أسلوب أي فنّان كان ؟ أي فائدة في أن نتعلّم الرسم حين يمكن أن نطلب من الذكاء الاصطناعي أن «يخلق» لنا كل أنواع الرسومات انطلاقاً من وصف بسيط ؟
بإمكاننا أن نكرر هذا السؤال في كل المجالات تقريباً، بالنظر، ليس إلى أداء الذكاء الاصطناعي الحالي، ولكن إلى ما سيصير عليه بعد عشر سنين أو عشرين سنة. وما هو مطروح هو ما يستطيع أن يقدمه الإنسان من قيمة مضافة بالنسبة إلى الآلة والتي من المتوقع أن تتضاءل في الكثير من المجالات.
فنحن أمام ثورة حقيقية تنزل الفرد عن عرشه، وسيصير من الصعب جداً تحفيز التلامذة على تعلُّم الجزء الأكبر من الكفايات والمعارف التي تشغلهم حالياً في المدارس. إننا أمام شكل مضخّم جداً لظاهرة نعايشها مع أدوات مثل ويكيبيديا، لكنها لا تطال هذه المرة المعرفة وحسب، بل أيضاً كيفية العمل والإنجاز. ومن المستحيل أن نخدع لمدة طويلة دماغنا الساعي دوماً إلى بذل جهد أقل في سبيل الحصول على نتيجة أفضل، وهي استراتيجية لطالما طبقها البشر وقد ساعدتهم على بقاء جنسهم.
يمكننا أن نتوقع بالتالي منذ الآن هبوطاً في التزام التلامذة بعملية التعلُّم عموماً، في ما عدا بعض المجالات الضيقة التي لا يطالها الذكاء الاصطناعي. فهل نحن أمام حائط عنيد؟ من المؤكد أننا كذلك... إلا إذا قمنا بتعديل مقاربتنا لعملية التعلُّم، معتبرين أن قيمتها لا تكمن في ما نتعلَّمه بحد ذاته، بل في الحالة الذهنية التي ترافق عملية التعلُّم.
إن الخروج من أزمة المعنى والأزمة الوجودية الحادة التي نواجهها يقضي بالتشديد على حالة الانتباه واليقظة الذهنية التي ينجز التلامذة خلالها ما يُطلب منهم، مع ضرورة تقييمها. وهذا ليس بالأمر السهل لكنه ممكنٌ بواسطة تقييمات مدروسة ومتخصصة.
بإمكان المدرسة أن تستمر في تقديم المواد التعليمية ذاتها تقريباً لتلامذتها بهدف توفير ثقافة مشتركة عابرة للأجيال على الأقل، حتى لو كانت الآلة قادرة على القيام بالمطلوب بسرعة أكبر وبنتائج أفضل بكثير. لكن الطريقة التي سينجز فيها التلميذ عمله هي ستكون الأهم، لأن حالة اليقظة والتركيز الشديد التي تؤدي إلى إحراز نتائج جيدة هي التي ستوفر له متعة الإنجاز، ومتعة الإنجاز بحد ذاتها هي التي ستكون دافعه للتعلُّم. وإن لم يعد التعلُّم ضرورياً في سبيل الابتكار، لكنه ضروري لتهذيب النفس والروح ولتمييز الإنسان عن الحيوان.