لم يعُد طعام الأم حلماً يفكر فيه الأبناء كلّما عصفت رياح الجوع في معِداتهم، ولم يعُد إعداد الطعام شكلاً من أشكال التربية تعلّمه الأم لابنتها قبل دخولها الحياة الزوجية. فمع كثرة الطهاة وهواة الطبخ المنتشرين على مواقع التواصل الاجتماعي، صار تعلّم الطهو، وإعداد الأطباق الجديدة أمراً سهل المنال. ليس هذا فحسب، بل نحن اليوم منفتحون على العالم، نأكل في بلادنا العربية طعاماً مختلفاً ألوانه؛ صينياً وكورياً ويابانياً.. وربما تركنا طعامنا التقليدي مهمشاً، أو منسياً على الرفوف في ثلاجات الجدّات.
فيديوهات فاتحة للشهية
في آخر السهرة، تشعر أماني بالجوع، فتهرع إلى المطبخ، وفي يدها الهاتف الذكي، تشاهد فيه فيديو لإحدى هاويات الطبخ، تُعد فيه فطيرة تصلح للجوع بعد منتصف الليل. يقوم المطبخ ولا يقعد، مكوّنات غذائية، ومقياس للوزن، وأوانٍ من كل شكل ولون، وتخرج الفطيرة من الفرن، ليس كما شاهدتها أماني في الفيديو، ولكنها تؤكل، وتسد الرمق.
هكذا حال المراهقين، ومن هم أكبر منهم سناً، يدفعهم الفضول، وحب التعلم، والرغبة في معرفة الثقافات المختلفة، إلى تطبيق ما يشاهدونه من أطباق تُعدّ بكل خفة وإتقان في الفيديوهات، والتي لا تخلو في نهاية العرض من «همهمة»، بعد تناول قطعة من حلوى شهية، أو معجنات لذيذة وغريبة.
قد تكون الأطباق فاتحة للشهية وتلبّي الرغبة في التنوع التي زادها الاستهلاك عبر الإنترنت، سرعة وضماناً، فكل ما ينقص لعمل طبق شهي ولا نجده في البيت، نطلبه عبر الإنترنت، لنحصل في النهاية على ما اشتهت أنفسنا، ولم نستطع السيطرة عليها.
عواقب غير مُرضية
مع كثرة الفيديوهات التي تتضمن إعداداً للطعام، صار الطريق إلى السمنة أسهل، وصار الاهتمام بالمحتويات، التي قد تكون ضارّة أكثر منها نافعة، أقل. ذلك أن للطعام شهيّة ومتعة، وإن لم تتم السيطرة على هذه الشهيّة فإنها تفلت من التحكم، ويطلق الجسم العنان للرغبة في تناول المزيد حتى يصاب بعوارض مَرضية لم تكن في الحسبان.
وهذا التعدد في الاختيار، وتوفر الأنواع المختلفة من عروض الطعام، سواء كانت جاهزة أو تُعَلّم الإعداد، جعل الاتكال على مصادر الطعام مسألة تحتاج إلى البحث والتدقيق والتوعية.
صدوفٌ عن الطعام، فقدانٌ للشهية وأمراض نفسية
إلى جانب الفيديوهات التي تُرَغِّب في تناول الطعام، هناك الكثير من الفيديوهات المنتشرة والمتداوَلة على مواقع التواصل الاجتماعي، فيها طرق إعدادٍ للطعام لم تكن تخطر في بال أحد، وكانت مجهولة لدى الكثيرين، فما كان لأحد أن يفكر يوماً في التخلّي عن أكلة يحبها بسبب تلقيه فيديو يقطع فيه مُعدّ الطعام اللحم بأظفار قدمه، أو ينظف فيه النادل فناجين القهوة بالبصق فيها، أو يدوس العجّان على العجينة بقدميه قبل أن يفردها على الأرض، ويضع فيها المكوّنات «الشهيّة» التي يُقبل عليها الجائعون، وهم لا يعلمون بأي مراحل مرّت قبل أن تستقر في أمعائهم. أو ذلك الفيديو الذي يظهر مُعدَّة الطعام تحشو العجينة بالديدان والحشرات لتصنع فطيرة «لذيذة»، بعد طهوها في طنجرة الضغط.
هذا إلى جانب الفيديوهات التي يحتل المجهر فيها البطولة، فيظهر ما يخفي الأندومي، والسوشي، وأكياس الشاي، من حشرات وطفيليات تغلق بالطبع أبواب الشهية، وتثير الاشمئزاز والقرف، خصوصاً لدى الصغار الذين لا يدركون، كما غيرهم من المراهقين، أن بعض الفيديوهات مضلّلة، وليست سوى افتراء على بعض الشركات. لكن هذا لا ينفي أن ما خفيَ في صنع بعض المآكل يضع حوله علامة استفهام كبيرة!