حين اتصلت هاتفياً بالمحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس، لأطلب منه مقابلة صحفية، قال لي بالحرف الواحد: «سآخذ الطائرة بعد قليل لأذهب إلى الجزائر لأترافع عن متهم، وأفكّ رقبته من حبل المشنقة. اتصلي بي بعد غد». كان واثقاً من أنه سيأتي لموكّله بالبراءة، ويعود إلى مكتبه في اليوم التالي. ثقة جاءت من أنه يجمع العديد من الألقاب، ومنها «تينور المحاكم».
والتينور مفردة موسيقية تطلق على الصوت الرجالي الحاد، والجهوري. ومن ألقابه الأخرى «محامي الشيطان». قال لي في المقابلة إنه يدافع عن القتلة والوحوش لأنهم بشر.
مات جاك فيرجيس، وانقرض أبناء جيله من «مطربي المحاكم». كانوا أصحاب مدرسة مميزة في أسلوب الدفاع. إذ لا يكفي أن يكون المحامي خبيراً بالقانون وأصول التقاضي، بل لابدّ من أن يكون خطيباً مفوّهاً يسحر القاعة، وهيئة المحكّمين، ببلاغته وحسن إلقائه. إنّ من البيان لسحراً. ومن يشاهد الأفلام المصرية القديمة يلاحظ كيف كان المحامي يعتمد على الخطابة لأنها نصف الفوز. أما الحجج القانونية فلها نصيب النصف، فحسب.
انتهت تلك المدرسة وظهرت أجيال من المحامين تلقّت ثقافتها اللغوية من الشاشات ووسائل التواصل. شبان وشابات لم يسهروا الليالي في مطالعة كتب الأدب، ودواوين الشعر. صار المحامي يقف أمام القاضي ليقول عبارات باردة تنقصها شحنة المشاعر. كأنه يريد إثبات معادلة رياضية، لا قضية إنسانية فيها ظالمٌ ومظلوم. جانٍ ومجني عليه. قاتلٌ ومقتول.
الفرنسي مواطن يؤمن بثقافة الكلام. يحب الثرثرة، ولا يلزم لسانه مثل الإنجليزي، أو يميل للصمت مثل الألماني. وقد انتبه أهل العدالة إلى التراجع في صفات المحامي. فقد يكون الأستاذ فلان الفلاني بارعاً في جمع قرائن الدفاع، لكنه ضعيف في الخطابة، لا يعطي للمرافعة حقها من الاستعراض. نعم، لابد لمن يشتغل بهذه المهنة من أن تكون له مواهب الممثل الدرامي.
مسابقة للمحامين الشباب في باريس
منذ 200 عام، يتولى مؤتمر محامي باريس تنظيم مسابقة في فنون المرافعة. مدة المسابقة خمس ساعات، تجري في قاعة مغلقة من دون وجود كتب للقانون، ولا حواسيب، وهواتف. يتقدم للمسابقة المئات من خريجي كليات الحقوق، لكن قلائل من يجتازونها.
إنهم في الأغلب من المبتدئين الذين يشتغلون مساعدين في مكاتب المحاماة الكبرى. أي الذين يجمعون الأوراق، وينظمون المواعيد، ويحضرون الجلسات البسيطة.
وهم يتقدمون للمسابقة لكي يخرجوا من هذا الإطار الضيق، ويلمعوا في سماء المهنة. والمؤتمر ليس معهداً للتمثيل وفنون الدراما، لكنه يؤمن بالكلمة، وبقوة الحجة التي تستند إليها، وبأن حسن عرض القضية قادر على استمالة عقل القاضي.
هناك فرق بين محامٍ يتلجلج في قراءة ورقة الدفاع، وبين خطيب مسحوب من لسانه، يرتجل مرافعته من دون أوراق.