28 نوفمبر 2021

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه

محررة في مجلة كل الأسرة

محررة في مجلة كل الأسرة

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه

سيرة عطرة سطرت ملحمة بطلها ما زال حاضراً في قلب ووجدان أبنائه، فرغم رحيل المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، إلا أن ما تركه من إرث عظيم جعله حياً في نفوس شعبه. وفي محاضرة افتراضية نظمها الأرشيف الوطني بعنوان: «مدخل إلى الوثائق البريطانية: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في العين.. نموذجاً للدراسة»، وقدمها الدكتور حمدان الدرعي الباحث والمؤرخ، استعرض خلالها الإطار التاريخي للمرحلة التي كان فيها الشيخ زايد ممثلاً للحاكم في منطقة العين، مستعيناً بالوثائق البريطانية نظراً لتغطيتها للعديد من المراحل الزمنية في تاريخ المنطقة.

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه
المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وهو خارج من قصر الحصن

إذ أشار إلى الدور الكبير الذي قام به في العين، وبدت بوادر فكره الذي سبق به زمانه، وسطع كقائد يعد رمزاً للحكمة والإخلاص، ونهض بمشروعات حيوية في إدارة التعليم وبناء المدارس، وفي مجال الإصلاح الزراعي، وتيسير أمور المزارعين في الري، وأنعش الحركة التجارية التي لاقت النجاح في منطقة العين.

أسعفتنا الوثائق البريطانية بتدوين العديد من الأحداث السياسية والاقتصادية مثل، إبرام الاتفاقيات بين الإمارات وبريطانيا بدءًا من 1820 وصولاً إلى العام 1971

يستعرض الدكتور حمدان الدرعي الفائز بجائزة العويس عن فئة أفضل كتاب يصدره أبناء الإمارات عن الإمارات لعام 2013، تلك الفترة من خلال عرض بعض من صفحات كتابه، والذي يحمل عنوان «زايد سيرة الأمجاد وفخر الاتحاد»، ليروي بعض المواقف على لسان شهود عيان تلك الفترة الملأى بالإنجازات، ويقول: تمتاز الوثائق البريطانية بسجل حافل في تدوين الأحداث وفق تاريخ حدوثها مما يسهل من عملية الربط التاريخي بين الأحداث وتسلسلها، فعلى سبيل المثال، أسعفتنا تلك الوثائق بتدوين العديد من الأحداث السياسية والاقتصادية مثل، إبرام الاتفاقيات بين الإمارات وبريطانيا بدءًا من 1820 وصولاً إلى العام 1971، كما أن الساسة البريطانيون من مقيمين ووكلاء ومعتمدين قاموا بتدوين العديد من الأحداث كاجتماع الخوانيج، وانهيار صناعة اللؤلؤ، ودخول الإمارات إلى نادي الدول المصدرة للنفط، وما استتبع ذلك من قيام للهياكل الإدارية على النمط الحديث، وغير ذلك الكثير.

ويكمل "ولا نخفي ما أوردوه من أحاديث عن الشيخ زايد والذي له محبة في قلوب الناس، تحفّها مهابة، وتكسوها مشاعر الألفة والمودة، فهو الزعيم الرشيد، والأب الحنون، وفي هذا الصدد كتب إدوارد هندرسون الوكيل السياسي البريطاني في أبوظبي في الفترة من 1959 وحتى 1961، قائلاً: «من حسن حظ الحاكم أن الاتصال الرئيسي بالقبائل طوال الأربع عشرة سنة الماضية كان يجري من خلال شقيقه زايد، الذي يتسم بالكرم والجود معاً، والذي يستطيع أن يجمع بين الاعتزاز الذي يشعر به الحاكم وبين البساطة والود الذي يدخل الدفء إلى قلوب رجاله، ولولا زايد لما كانت القبائل تشعر بصلة قوية بالأسرة الحاكمة، وهذا ما يظهر بوضوح بالنسبة لغالبية البدو»، ففي أثناء تمثيل الشيخ زايد لحاكم أبوظبي في العين، سطر مثلاً أعلى في التكافل الاجتماعي بين الناس، عندما تصدى بأريحية، وحس إنساني مرهف لتلك المصيبة التي عصفت بفقراء المزارعين آنذاك، وكادت أن توردهم موارد الهلاك، إذ كان في الواحة رهط فقدوا معاني التكافل الاجتماعي فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة.

وكان مما يشدّ من أزر تلك الفئة المستكثرة أن نظام الري والسقاية آنذاك كان يبيح الماء لمن ينفق أكثر، وتبعاً لهذا النظام كان المزارعون الذين يعانون ضيق اليد لا يستطيعون ريّ بساتينهم سوى مرة واحدة في عدة أشهر بينما كان الماء يروي بساتين الأغنياء خمس مرات شهرياً مما يعرض بساتين الفقراء للتلف وثمارهم للعطب وعائلاتهم للحرمان والعوز، وكان من حسن حظ المعسرين أن قيّض الله لهم زايد الذي بادر إلى معالجة الفتنة قبل أن يتطاير شررها، ويستفحل أمرها، فجمع أصحاب المال والأراضي، وعرض عليهم أن تكون السقاية حقاً مشاعاً بين الناس ولكي يضرب لهم مثلاً في الإيثار، أعلن أنه أباح السقاية للفقراء من الحقوق الخاصة به وبآل نهيان، وفي المقابل منع الأغنياء الذين حبسوا الماء عن بساتين الفقراء من الانتفاع بماء فلج الصاروج الجديد، فأقبلوا إليه مذعنين، ولحكمه طائعين وتسارع الناس في سقاية منطقة العين وما جاورها.

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه
استقبال الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان من قبل موظفي شركة النفط

ويتابع: كان الشيخ زايد يتحرق شوقاً لرؤية العمران متبحراً خلال الديار، ويروي الشيخ زايد للصحفي العالمي كارانجيا في اللقاء الذي نشرته إحدى الصحف المحلية في 4 يونيو 1970 ما كان يجيش في صدره من طموحات وأمنيات لبلده وقومه، وقال: «وفي أحد الأيام عندما كنت حاكماً للعين في المنطقة الشرقية، كنت أتمشى في طرقات العين.. أحسست وأنا أرى الناس والبيوت والجبال والوديان أن حضارة هذا البلد تكاد تصرخ فيّ، وتدفعني دفعاً إلى بناء دولة عصرية حديثة، هنا أخذت أشير، وكأنني في حلم روحي عذب، هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء....»، وما إن انقادت الزعامة للشيخ زايد حتى أخذ في تحويل مجرى الخير ينابيع يروي بها مشاريعه الإنمائية، وخططه الإنسانية، حتى بدت أبوظبي غير تلك التي كان عهد الناس بها.

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه

إن التحول في أبوظبي ضربٌ من الذهول، معدّل التنمية الحالية هائل

وكان دونالد. إف. هاولي المعتمد السياسي البريطاني في دبي في تلك الفترة، قد زار الإمارات المتصالحة في الفترة من 28 ديسمبر 1968 إلى 3 يناير 1969 وقد هاله ما شاهد من تطور كبير في شتى المجالات، ومختلف الأصعدة، في تلك الفترة الوجيزة من تولي الشيخ زايد دفّة الحكم في إمارة أبوظبي، فقدم شهادته حول ذلك وقال: «إن التحول في أبوظبي ضربٌ من الذهول، فعندما قمت بزيارة (نهاية مهام عملي كوكيل سياسي بريطاني) للشيخ شخبوط في صيف 1961، كنا مضطرين لجعل الهواء ينبعث من إطارات سيارتنا اللاندروفر، لعلنا بذلك نتغلب على كثبان الرمال الواقعة على مشارف مدينة أبوظبي، أما الآن فيوجد طريق مزدوج رائع للمركبات يربط إلى البريمي، وهو شبه مكتمل تقريباً هنا كل شيء يمشي على قدم وساق، ومعدّل التنمية الحالية هائل.

ويضيف د. حمدان الدرعي: كما قارع زايد جور نظام الريّ، وأطاح به، فها هو ذا يعدّ العدّة، ويجمع أمره لمكافحة الأمية والقضاء عليها: فقد كان يتحرق أسى وألماً لرؤية الأمية تحصد مستقبل أبناء قومه وتوردهم موارد التخلف، وقد ورد ذكر بعض التفاصيل في الوثائق البريطانية، فهي تشير إلى أن الشيخ زايد استقدم لهذا الغرض رجلاً من مسقط، وأوكل إليه تعليم الأبناء واتخذ له مدرسة من المويجعي لتكون نبراساً يضيء ما حولها، ويقول إم. إس. باكماستؤ الوكيل السياسي في الساحل المتصالح عام 1952: إن المدرسة بدأت بنجاح باهر غير أنها ما لبثت أن تقهقرت نظراً لكسل وإهمال مدير المدرسة الذي أخفق في الحفاظ على حماسة الأولي.

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه

ويستطرد في ذكر العقبة التي اعترضت مسيرة التعليم آنذاك، فيقول: «وتمنّع البدو عن السماح لأولادهم بالبقاء طويلاً في المدرسة في الوقت الذي يحققون فيه ربحاً أكبر من العمل في ديارهم، بالاعتناء بقطعان آبائهم وجمالهم، بيد أنه تمّ افتتاح مدرسة ابتدائية جديدة في القطارة، وتضم حوالي 40 طالباً منتظماً». وعندما سافر الشيخ زايد إلى مصر عام 1959، كان من بين الأهداف الرئيسة للزيارة الاستعانة بالخبرات المصرية في ميدان التعليم، لعله يقرّ عيناً برؤية أبنائه على مقاعد الدراسة يتعلمون، وعلى أرقى الدرجات يعتلون.

ويشير د. الدرعي: لقد نبتت المشورة في البادية وروتها يد زايد، فأينعت في الحواضر، وأزهرت في عصرنا الحاضر، ومن ينظر إلى الماضي القريب يتضح له أنه في ظل غياب مفهوم الدولة الحديثة، كان البدوي مضطراً إلى أن ينبذ العزلة، وأن يمسك بتلابيب القبيلة، ويلتصق بها، إذ لا حول له ولا طاقة إلا بالالتجاء إلى عصبة تأويه، وقبيلة تحميه، فقد أدرك الشيخ زايد قيمة مشاركة الشعب في دفع عجلة الشورى، فهو يأبى بطبعه الأصيل أن يستبد بأمرهم أو أن يستأثر بشأنهم، فبما أنهم ركاب سفينة الاتحاد فهم مخوّلون بل مطالبون من قبل قبطانها الشيخ زايد بإبداء النصح والمشورة، ومما يثلج الصدر ويقر العين رؤيته عياناً لرعيته، وهي تتفيأ ظلال الأمن، وتخلع رداء الخوف، فقد علم الشيخ زايد أن الاستئثار بالأمر والاستبداد بالقرار له عواقب وخيمة وآثار جسيمة تطال حياة الناس وتجرعها من الشقاق أفناناً فيغدو الوطن جحيماً ويصير العرض مستباحاً والمال تالفاً.

الباحث والمؤرخ د. حمدان الدرعي: الشيخ زايد قائد سبق زمانه

ولنشأة الشيخ زايد في رحاب العين وتقلبه بين أفنانها وإدارته لشؤونها التي امتدت قرابة عشرين عاماً عظيمُ الأثر، وأكبر داعٍ لغرس هذه القيمة في سلوكه ونهج إدارته فقد لبث عمراً بين ظهراني أهل العين، والتقى فيها كافة أعيانهم وعوامهم، وتشابكت أمام عينه شتى المصالح والمنافع وبمبضع الجراح الماهر فض اشتباكها وأعادها إلى جادة الخير وألزم كل طرف طريقه وهداه سبيله، والشواهد على ذلك كثيرة والحوادث الدالة على ذلك أكيدة منها ما أورده الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر إذ أكد في كتابه الرمال العربية أن الشيخ زايد كان يلجأ إلى أخذ رأي أولي النهى والحلم من كبار السنّ الذين خبرتهم السنون.

وعرف الشيخ زايد برياضة بدوية شهيرة، هي القنص بالصقور، والتي غرست في قلبه الجلد والصبر ومحبة العمل الجماعي، فلا حاجة إلى القول إن هذه الرياضة يحلو طعمها بمزاولتها جماعياً.

 

مقالات ذات صلة