ثمة قناعة سائدة تقول إن الطفل ما لم يعلّمه أهله التمييز بين الخير والشر، سيكبر ليكون أشبه بطفل الغاب العاري من الأخلاق ومن الإنسانية، كما لو أنه حيوان صغير لا يحمل أي وازعٍ يرده عن عمل الشر لكنه حيوان بريء بما أنه خالٍ من أي تنشئة أخلاقية.
هي قناعة صحيحة من حيث الإجمال لكنها تحتاج إلى تعديل ليس فقط على ضوء الأبحاث الحديثة ولكن على ضوء ما يلاحظه جميعنا كذلك في سلوك الطفل اليومي.
ألم نرَ جميعنا طفلاً لم يتعدَّ سنته الأولى يبكي أو يرتعب عند رؤيته شخصًا آخر يبكي أو يتألم؟
ألم نشهد عدوى البكاء تنتقل بين رضيع في أشهره الأولى ورضيع آخر؟
أما في بداية سنته الثانية فإن الطفل يهرع بشكل عفوي لمساعدة شخص آخر حين يراه مثلاً يحاول أن يلتقط شيئًا بعيدًا عنه وقريبًا من الطفل فيسارع هذا الأخير إلى إعطائه إياه، ما يعني أن الطفل قد فهم جيدًا ما يريده الآخر ليبادر من تلقاء نفسه إلى مد يد العون له.
تشير هذه الحوادث وسواها إلى أن الطفل يمتلك منذ ولادته مجموعة من الاستعدادات الإيجابية والمشاعر التي تحثه على التعاطف مع الآخرين. وهذه المشاعر التي يمكن أن نصفها بأنها أخلاقية وأساسية هي مشاعر فطرية وغير مكتسبة يتسم بها جميع أفراد الجنس البشري.
يستثنى من هذا التعميم بالطبع الأطفال المصابون بالتوحد والأشخاص المصابون بالعته أو بخلل في المنطقة الجبهية من الدماغ حيث إنهم لا يعرفون مشاعر التعاطف أو الذنب أو الخجل ولا يملكون كذلك حس العدالة.
ومن ناحية أخرى، أجريت دراسات على أطفال بين الثالثة والثامنة من العمر طلب منهم أن يحكموا على سلوك شخصيات في حكايات تسرد على مسامعهم. وقد تبيّن أن هؤلاء الأطفال قادرون على أن يأخذوا في الحسبان نوايا الأفعال وليس نتائجها فقط.
بمعنى آخر، فهم هؤلاء الأطفال تماماً أن القتل العمد حتى لو فشل في تحقيق مراده أكثر سوءاً من الناحية الأخلاقية من التسبب بوفاة شخص آخر عن طريق الصدفة.
ما سبق يدل على أن هذه العجينة الطرية المفعمة بالحياة مؤهلة بشكل فطري لأن تصبح إنسانًا كامل الصفات الأخلاقية في حال نشأ في بيئة تشجعه على ممارسة هذه الصفات. ولا يكون التشجيع بالكلام وحسب بل على الأهل أن يطبقوا من ناحيتهم ما يدعون الطفل إلى تطبيقه.
فهذه هي مهمة الأهل وهذه هي التربية الصالحة التي لا تفسد عجينة صالحة.