«عزّلي غرفتك». هذا ما كنت أسمعه من الوالدة وأنا دون العشرين. ولما كبرت وأصبحت ربة أسرة فإن العبارة انتقلت من فم أمي إلى فمي. والتعزيل، بلهجتنا العراقية، يعني التنظيم والترتيب. أي تعليق الثياب في الدولاب والتخلص من المجلات القديمة والمناديل الورقية المستعملة وقشور البرتقال ووضع الملابس المتسخة في سلة الغسيل. أقول لابني «عزّل غرفتك» وكأنني أنفخ في قربة مثقوبة. ماما تقوم بكل شيء.
تذكرت الأمر وأنا أتفرج على برنامج تلفزيوني مخصص لهذا النشاط: التعزيل. إن هناك من الرجال والنساء من يفشل تماماً في هذه المهمة ويرتبك إزاءها. وهم يقولون لك إن التنظيم موهبة عقلية. وليس كل الناس موهوبين. لهذا يقدم لنا البرنامج شابة احترفت الذهاب إلى البيوت لتنظيم حجراتها وخزائنها ورفوف مكتباتها. وأظن أن أصحاب البرنامج يبالغون في فوضى الشقق والمنازل.
فالشابة تدخل على ما يشبه ساحة معركة. الأثاث مشغول بالثياب والمطبخ مقلوب رأساً على عقب وكل الحاجيات مكومة على الأرض. وتكون مهمة البنت الموهوبة أن تتخلص من الزوائد وتضع كل شيء في موضعه المناسب.
مع «كورونا» والحجر في المنازل، انشغل كثيرون منا بتنظيم خزائن الثياب والأواني والمكتبة. إنها فرصة لاستغلال الساعات الطويلة من الحبس. قلت لنفسي إن الوقت قد حان لكي أقوم بعملية ترشيق لمكتبتي البيتية والتخلص من المطبوعات والترهلات التي لم تعد تنفعني. سأستبقي على الكتب التي أحبها أو التي أحتاجها في عملي وأتبرع بالباقي للأصدقاء. وكانت المشكلة التي واجهتني هي ثقل صناديق الكتب. فلا أنا قادرة على نقلها إلى من يريدها ولا هو مستعد لأن يأتي ويأخذها.
وجدت نفسي أمام تحد كبير. كيف أختار ما سأتخلص منه، أي الانفصال عن كتب جمعتها على مدى أربعين عاماً؟ هل أتخلص من مئات الروايات ودواوين الشعراء العرب وأكتفي بروايات زملائي العراقيين ودواوينهم؟ هل سأفارق القاموس «المنجد» وزميله «المنهل» لأن المعاجم الإلكترونية أغنتني عنهما؟ حكاية تجر حكاية وذكرى تسحب وراءها ذكرى. ففي أيام الحصار الاقتصادي الطويل والمضني على العراقيين، رأيت في شارع المتنبي في بغداد أساتذة جامعات جاؤوا ليبيعوا كتباً نادرة من مكتباتهم. طفرت الدمعة من عين أحدهم حين تنازل عن ديوان المتنبي مقابل ثلاثة آلاف دينار، أي بضعة قروش بسبب انهيار قيمة العملة المحلية. وأعرف أشخاصاً يضعون النادر من كتبهم في معزّة أبنائهم. واسألوا زميلنا الدكتور حسن مدن فهو خير من يعرف «غلاوة» الورق المطبوع الملموم بين دفتين.
بصراحة، لا أميل للمكتبات المرتبة جداً وكأنها مجرد ديكور منزلي. أحب فوضى الكتب والمجلات وتوزعها فوق المناضد وتعاشقها مع الأثاث واختباءها قرب السرير وتحت الوسادة. يسعدني العيش في «حضن» المكتبة.