في هذا العالم الذي يزداد تنافسية، تسلّم نرجسيون مواقع مهمة، وصار المجتمع المعتمد على مهارة الأداء وعلى الاستهلاك يدفع الأفراد إلى التركيز أكثر فأكثر على أنفسهم، معززًا بهذا سماتهم النرجسية ليختار من بينهم الأشد نرجسية فيرفعه إلى أعلى المناصب.
فما أشكال النرجسية الأكثر خطورة وكيف تؤثر في حياتنا؟
وفقًا لكتاب «أصحاب نرجس» للمؤلف د. ماري فرانس إيريغويين ثمة نزعة تقليدية إلى تصنيف أمراض النرجسية إلى فئتين أساسيتين:
- فئة تنبع من الحب الزائد للنفس وهي نرجسية العظمة، أو حب العظمة
- فئة تنبع من قلة حب النفس وهي النرجسية الهشة
بيد أن هذين المرضين ينبعان كلاهما من مشكلة واحدة ويخبئان هشاشة داخلية كبيرة ونقص في الثقة بالنفس وشكوك حول قدرات الذات وإمكانية الحصول على حب الآخرين. يضاف إلى هاتين الفئتين الأساسيتين فئة أشد خطرًا وهي النرجسيون المنحرفون أو «الساكوباث».
أولاً: نرجسية العظمة أو حب العظمة
هي شكل النرجسية التي يسهل التعرف إليها، واللوحة التي نرسمها عنها قريبة من لوحة الناس الذين يحملون سمات نرجسية بسيطة لكنهم يختلفون أساسًا لعدم قدرتهم على حب الآخر واحترامه لما هو وليس لما يمكن أن يقدمه لهم، وكذلك عدم قدرتهم على الانفصال عن أنفسهم للانفتاح على الآخر.
وفي حين أن المرض يقاس عادة بدرجة الألم التي يشعر بها المريض، فإن اضطراب الشخصية النرجسية يقاس بالأثر السلبي الذي يحدثه في الآخرين.
أن تكون نرجسيًا بشدة يقود إلى دوامة جهنمية
نرجسي العظمة يعتبر نفسه متفوقًا على الآخر ويظن أنه يجب أن يستفيد لهذا السبب بحقٍ في تخطي القانون والآداب العامة.
في العمل، كما في كل التجمعات يتصدر ويعطي لنفسه قيمة على حساب الآخرين.
في المرحلة الأولى يحصل على ما يريده ويلتقي بشركاء مفيدين له لكن الحكاية تنتهي بشكل سيئ عمومًا.
هؤلاء النرجسيون يركزون أولاً على أنفسهم، يحتاجون إلى أن يكونوا مركز أي مجموعة، يتحدثون بوفرة عن إنجازاتهم وعن مشاريعهم «العظيمة»، وفي الحديث، يضعون أنفسهم في المرتبة الأولى، يحتكرون الكلام ويدعون أنهم يعرفون كل شيء أكثر من كل الناس وكل ما يقولونه بحماسة يبدو استثنائيًا.
وبما أن كل شيء يدور حول شخصهم، ينزعون إلى بدء كل جملهم بكلمة «أنا»، «أنا فعلت هذا، أنا قلت هذا، أنا نجحت في هذا...» وبما أنهم على قناعة أنهم يستحقون المكانة الاستثنائية التي يشغلونها، يسمحون لأنفسهم أن يفعلوا كل ما يريدون ويظنون أن كل شيء واجب تجاههم فيعطون أنفسهم كل الامتيازات.
كما أنهم يعتبرون أن الآخرين عاجزون عن فهمهم فيختارون أفضل المحامين والأطباء أو المزينين ويسعون إلى مصادقة الأشخاص ذوي الشهرة لأن تقديرهم لنفسهم يزداد من خلال القيمة التي ينسبونها إلى هؤلاء الأشخاص.
قد يحققون نجاحًا في علاقاتهم لأنهم يسعون إلى نيل الإعجاب والاعتراف بهم فيمدحون الأعلى منهم ويعكسون صورة إيجابية عن أنفسهم فينجحون في احتلال مناصب عالية.
النرجسي يعجز عن إعطاء الحب والحنان
وفي المقابل يتميز نرجسيو العظمة بالغيرة والحسد ممن هم أشد ثراء أو نجاحًا منهم. ويحتقرون من لا يوليهم اهتمامًا ويكبرون من يرون فيه منفعة لهم. أما قلة اهتمامهم بحاجات وبرغبات الآخرين فهي تقودهم إلى استغلالهم والتقليل من شأن الأشخاص الذين يبدون أقل أهمية منهم. وفي حين أنهم يرتاحون في العلاقات السطحية، يجدون صعوبة في إقامة علاقات وثيقة وحميمة. وفي العلاقات العاطفية، يبدأون بكلمات ووعود رائعة ليعطوا الآخر انطباعًا بأنه فريد من نوعه حتى يوقعونه في شباكهم ولكن سرعان ما يبخلون عليه بعدها بعواطفهم ويخلون بالتزاماتهم بالعلاقة. فالنرجسي يعجز عن إعطاء الحب والحنان وكل ما يريده هو أن يهتم الطرف الآخر به. وإذا ما طالب الشريك باهتمام أكبر، يخرج النرجسي ليقيم علاقات عابرة مع سواه. فهم لا يطيقون أي نقد ويعتبرون أي ملاحظة بمثابة سهم جارح أو رفض لهم. كما أنهم لا يحتملون الفشل ويعتبرون أي فشل يصيبهم مسؤولية الآخر، بدل أن يراجعوا أنفسهم.
ثانيًا: النرجسية الهشة
صحيح أن اللوحة السريرية للنرجسي الهش أقل تميزًا من لوحة نرجسية العظمة، حتى أنه يصعب تمييزها عن التشخيصات السريرية الأخرى، والأخص اضطرابات الشخصية الحدودية، السكيزونمطية أو البارانويية، لكن النرجسية الهشة أكثر انتشارًا من نرجسية العظمة، ويعتبرها بعض الاختصاصيون أشد خطورة لأنها قد تقود صاحبها إلى الانتحار.
يشترك النرجسيون الهشون مع نرجسيي العظمة بأحلام النجاح العظيم ومثلهم لا يأبهون للآخرين ويعتبرون أن كل شيء واجب لهم. كما يمنحون أهمية كبيرة للاعتراف بهم ويعتمدون إلى درجة قصوى على نظرة الآخرين إليهم. ومع تركيزهم على أنفسهم يعيشون صعوباتهم بطريقة شديدة السلبية وهم غالبًا ما يكونون قلقين وحسودين وأحيانًا مكتئبين.
هم يريدون احتلال المواقع الأولى ولكنهم يدركون إلى حد ما أنهم لا يملكون القدرات المطلوبة أو أن أهدافهم عالية جدًا. وهم عمومًا من النوع الكتوم والمتحفظ وقد يخبئون شعورهم بالعظمة خلف تواضع زائف ويسعون إلى حب الآخرين واحترامهم عبر عملية شكوى مغرية وأحيانًا عبر إشعار الآخر بالذنب والتلاعب به.
وقد يعيش الشخص نفسه حالة «عظمة» تليها حالة «هشاشة» وهذا ليس بالغريب لأنه خلف العظمة تختفي دائمًا هشاشة كبيرة. وينبع اهتمام النرجسيين الزائد برأي الآخرين من حاجة دائمة إلى الطمأنة من خلال نظرة الآخر حول قدرتهم على أن يكونوا محبوبين. أما ادعاءهم التفوق فهو محاولة لتعويض قلة تقديرهم لذاتهم، وهذا على حساب الآخرين بالنسبة إلى نرجسي العظمة أو على حساب نفسه بالنسبة إلى النرجسي الهش.
وثمة نوعين من النرجسيين الهشين:
- الأول يحمل تقديرًا ضئيلاً لنفسه وإحساسًا بقلة قيمته بالإضافة إلى حاجة كبيرة للاعتراف به من قبل الآخرين. وهؤلاء الناس يتجنبون المواجهة لأنهم يخشون كل ما يهدد تقديرهم لذاتهم. وهم مفرطو الحساسية يخشون أي نوع من أنواع النقد. ويشعرون أن لا أحد يعترف بهم ولا بقيمتهم الحقيقية فيختبئون خلف «أنا» مزيفة قد تعطي عنهم صورة الشخص الشديد التطابق مع ما هو مطلوب منه. ويشعر النرجسي الهش بالخجل من عدم كونه ما هو متوقع منه.
- أما النوع الثاني من النرجسيين الهشين فهو الذي يملك تقديرًا عاليًا لذاته لكنه غير مستقل وشديد الحذر ما يقرب شخصيته من النوع الذي يشعر بارتياب الاضطهاد. وخلف واجهة من اللطف والهشاشة، يتسم هؤلاء النرجسيون بالطموح والحساسية الشديدة ويعتريهم انطباع أنهم محط انتقادات من جانب الآخرين أو قلة اعتبار ما يقودهم إلى إحساس بالذل والجرح النفسي السريع. وتميل ردود فعلهم إلى الاكتئاب أكثر منها إلى العدوان ولا يندر أن من بينهم من يقوم بمحاولات انتحار.
ثالثاً: النرجسية المنحرفة
هي اضطراب شديد وخطير في الشخصية النرجسية بما أنها مترافقة مع انحراف أخلاقي. كان العالم الشهير «إريك فروم» هو أول من شخَّص هتلر قائلاً إنه صاحب «نرجسية خبيثة» واعتبر هذه السمة الأخطر لأنها تحمل بذور التدمير وانعدام الإنسانية.
وكما المصاب بنرجسية العظمة لا يشعر النرجسي المنحرف بأي تعاطف مع الآخرين. وفي حين أن الأول يركز تمامًا على نفسه ولا يدرك أثره السلبي في الآخرين، نجد أن الثاني يدرك تمامًا الألم الذي يسببه للآخر لكنه لا يأبه له بل هو يشعر بمتعة عند رؤيته. فالنرجسي المنحرف بحاجة إلى من ينظر إليه بإعجاب لأنه نرجسي ولكنه بحاجة كذلك إلى فريسة لأنه منحرف.
وهذا النوع من النرجسيين يغزو المساحة النفسية للآخرين ليتملك صفاته أو حيويته ويتهجم على تقديره لذاته وثقته بنفسه لحساب نرجسيته الخاصة. ما يحركه هو الحسد لأن نجاح الآخر يضعه أمام ثغراته وفشله وهذا ما لا يستطيع احتماله. وإذ لا يستطيع أن يضاهي الشخص الذي يحسده، يعمل على إذلاله وتدميره. والمدهش لديه هو قدرته على الإقناع وعلى التلاعب بالآخر وجعله يفعل ما يريد حتى ولو على حسابه.
لا يهاجم النرجسي المنحرف بشكل مباشر ولكن بواسطة إيحاءات وتهديدات خفية وضغوط أو إشعار بالذنب وقد يدفع فريسته إلى ارتكاب الخطأ حتى يتمكن من إذلالها أكثر فأكثر والحط من شأنها. في الأسرة، لا يحتمل النرجسي المنحرف التناغم العائلي ويعمل جهده لتأليب الجميع على الجميع. وهو لا يعترف أبدًا بأخطائه بل يحمل الآخرين كل فشله ويسقط عليهم كل عاهاته، وحين يتعرض المنحرف لخطر كشف أمره يقدم نفسه على أنه ضحية.
هو مخطِّط استراتيجي من الدرجة الأولى يعرف بالتحديد ماذا يعمل ويسيطر على كل شيء بأدق التفاصيل ولا يقوم بأعمال منافية للقوانين والأعراف الاجتماعية بشكل فاضح بل يبقى على حدود ما يمكن أن يقع تحت حكم القانون لهذا السبب ترون هذا النوع من الشخصيات منتشرًا في أوساط السلطة. فقدرته على الكذب مع انعدام الرادع الأخلاقي وسهولة إقامة العلاقات الاجتماعية يمكنه من تحقيق نجاح سريع سواء أكان اجتماعيًا أو ماديًا.