في قلب منطقة غمرة بالقاهرة، وتحديداً في 24 شارع الشيخ قمر بحي الظاهر المكتظ بالسكان، يقع واحدٌ من أقدم قصور القاهرة على الإطلاق، وهو قصر السكاكيني الذي تم بناؤه سنة 1897 على يد مجموعة من أمهر المعماريين الإيطاليين، الذين استقدمهم صاحب القصر خصيصاً من إيطاليا ليشيدوا له قصراً فخماً على غرار أحد القصور التي رآها وانبهر بها عند زيارته لإيطاليا.
فما هي قصة ذلك القصر ومن كان صاحبه وِلم كان يتمتع بمثل هذا النفوذ والثراء؟
من هو حبيب باشا السكاكيني؟
وُلد حبيب جبرائيل أنطون في القاهرة عام 1840، وكان والده سورياً جاء من دمشق إلى مصر عام 1830. وكان يعمل بصناعة السكاكين والأسلحة البيضاء - ومن هنا جاء لقب "السكاكيني" - عمل الأب في المقاولات بعد فترة من قدومه إلى مصر، وشارك في العمل على المشروع الضخم لحفر قناة السويس الذي تم البدء فيه عام 1852، وكان على علاقة جيدة بالخديوي إسماعيل.
كيف وجد السكاكيني طريقه إلى الثراء؟
كبر حبيب السكاكيني في مصر وأصبح من رواد الأعمال والمقاولين ذائعي الصيت بها، وكان – على غرار والده - تربطه هو الآخر علاقة وثيقة بالخديوي إسماعيل، حاكم مصر في ذلك الوقت، والذي أنعم عليه بلقب الباشوية وكلفه ببناء الأوبرا الخديوية في حي الأزبكية بوسط القاهرة، والتي تم افتتاحها في نوفمبر 1869 لاستقبال ملوك وأباطرة أوروبا الذين جاءوا إلى مصر خصيصاً من أجل حفل افتتاح قناة السويس الأسطوري، والذي أمر بتنظيمه الخديوي إسماعيل. وأصبح بعدها حبيب السكاكيني من أثرى أثرياء مصر.
اشترى أرض القصر في مزاد بمساعدة الخديوي
أراد حبيب السكاكيني أن يبني قصراً فخماً يليق به كمقاول شهير قام ببناء الأوبرا الخديوية، فاختار لقصره موقعاً مميزاً بالقاهرة في منطقة الظاهر. وكانت المنطقة التي يوجد بها قصر السكاكيني قبل بنائه تُعرف ببِركة "قراجا التركماني"، وكانت معروضة للبيع في مزاد خاص، فقام السكاكيني باشا بشرائها في يونيو عام 1880، وقد ساعدته في ذلك الصداقة القوية بينه وبين الخديوي إسماعيل.
وفور حصول حبيب السكاكيني على بركة التركماني والمنطقة المحيطة بها، بدأ في ردمها تمهيداً لبناء قصره الفخم الذي يقع تماماً في منتصف الحي على قطعة أرض دائرية، كدَوّار تلتقي عنده 8 طرق رئيسية مؤدية إلى حي الظاهر.
تحفة معمارية إيطالية عمرها 125 عاماً
تعاقد السكاكيني باشا مع مجموعة من أبرز المعماريين الإيطاليين الذين كانوا يعملون في مشروع القناة لبناء القصر، وقد أشرف على تشييده المكتب الاستشاري العالمي في إيطاليا. تم بناء القصر على مساحة 2698 متراً مربعاً بالميدان أو الدوار الذي يحمل اسم القصر على طراز معماري معروف هو "الروكوكو".
وقد قام المعماريون بدمج الطراز البيزنطي أيضاً من خلال مجموعة من القباب مخروطية الشكل، تجعل القصر يبدو الآن وسط الحي المكتظ بالمباني والناس، وكأنه لوحة رائعة من العصور الوسطى.
معلومات مذهلة عن القصر
لا يستطيع الناظر إلى القصر من الخارج إدراك حجمه الحقيقي ومساحته الشاسعة من الداخل، فالقصر مبني على مساحة 2698 متراً مربعاً ويتكون من خمسة طوابق؛ يوجد بالطابق الأول منها 4 غرف شاسعة المساحة، أما الطابق الثاني فهو مكون من 3 قاعات و4 صالات وغرفتين، وتبلغ مساحة الصالة الرئيسية به حوالي 600 متر مربع وتحتوي على 6 أبواب تؤدي إلى قاعات مختلفة بالقصر.
كما يضم القصر أكثر من 50 غرفة ويحتوي على نحو 300 تمثال رائع مصنوع من الرخام، من ضمنهم تمثال نصفي للسكاكيني باشا يتوسط مدخل القصر. يحتوي القصر كذلك على مجموعة مذهلة من التحف والمقتنيات النادرة، مثل تمثال فتاة دُرة التاج المدهش. ويوجد بالقصر حوالي 400 نافذة وباب، وله 4 أبراج يعلو كل منها قبة صغيرة وعلى قمة كل واحدة منها تمثال رائع الجمال.
إهمال القصر بعد وفاة السكاكيني باشا
بعد وفاة السكاكيني باشا عام 1923 وتقسيم ثروته على الورثة، لم يقدر ورَثته القيمة الحقيقية للقصر وقاموا بالتنازل عنه للدولة، ومن ثم آلت ملكية القصر لوزارة الصحة. وفي الفترة بين عامي 1961- 1983 أصبح القصر مقراً لمتحف التثقيف الصحي، وبعد انتقال المتحف من القصر تم إهماله فأصبح مخزناً لبعض معروضات المتحف المهملة في بدروم أسفل القصر. ثم في عام 1987 تم تسجيل القصر ضمن الآثار الإسلامية والقبطية بقرار من رئيس مجلس الوزراء، ليتم إغلاقه ووضعه تحت رعاية المجلس الأعلى للآثار، مع الوعد بتطويره وفتحه للزوار، إلا أن ذلك لم يتم حتى هذا اليوم.