18 مارس 2023

"التقاعد المبكر".. بين كآبة الواقع الجديد وفرحة التحرر من الأعباء الوظيفية

محررة في مجلة كل الأسرة

يبقى التقاعد المبكر من أكبر الأزمات التي يواجهها الشخص في حياته، فإرغام الموظف على ترك العمل في وقت أقرب مما هو متوقع، ينعكس عليه سلباً، ويعيق الأب عن القيام بدوره في تلبية احتياجات أسرته وتحقيق أهدافها. وبينما يتداركه البعض بترتيب الأولويات والبحث عن مسار آخر في سوق العمل، يقع القسم الآخر فريسة لوطأة الضغوط النفسية التي ربما تصل به إلى الكآبة. وبين «الإلزامي» الذي تفرضه بعض المؤسسات لمقتضيات العمل و«الاختياري»، تختلف تبعات التقاعد تبعاً لنوعه وضرورات العمر.

الاستعانة بالمتقاعدين في مجالات مختلفة

تلقى حامد سالم العلوي موظف سابق في القيادة العامة لشرطة أبوظبي، خبر إحالته على التقاعد بعد خدمة 21 عاماً، كالصاعقة. ويقول: «لا يمكن وصف مشاعر الألم والخيبة التي لا زالت أبعادها مستمرة إلى اليوم، إحالتي على التقاعد دون أن أتم سن 45 كان صدمة كبيرة؛ كوني رجلاً على عاتقي كثير من الأعباء والمسؤوليات الأسرية، حيث لم تكن الحالة المالية تسمح بالتفكير والإقدام على هذه الخطوة في حال ما إذا تم طرحها».

يوضح العلوي معاناة المتقاعدين: «لم يكن التعامل مع الجهات الحكومية والقطاع الخاص بالأمر السهل، حيث يعامل المتقاعد على أنه شخص غير كامل، فهو في النهاية شخص يتلقى راتباً في المقابل لا يمنح أي امتيازات، سواء على مستوى الخدمات الصحية أو في مراكز التسوق، وهو يعيش الأزمات الاقتصادية العالمية وما يتبعه من غلاء المعيشة».

ويشير: «يجب أن ندعم المتقاعد برفع مستوى المعاش للشخص المتقاعد أو الاستعانة به كطاقة وطنية في تقديم ورش ومحاضرات في مجالات مختلفة، عوضاً عن جلب المحاضرين من الخارج، وبالتالي تعود الفائدة على المتقاعد وميزانية الدولة التي تكبدها هذه الخطوة مبالغ كبيرة».

تحرر من الأعباء الوظيفية والتزامات العمل

وتبين ثريا المازمي أسباب إحالتها على التقاعد في سن 38 عاماً: «بعد 21 عاماً من العمل في مجال التعليم تقدّمت لطلب التقاعد بسبب زيادة ضغوطات العمل على خلفية قرار تأنيث المراحل التدريسية لمدارس البنين، حيث كنت أعمل في منصب مشرف إداري». وتكشف تأثير هذا القرار على الناحية المالية: «لا أخفي أنني كنت مجبرة على تخفيض النفقات لأتمكن من تلبية الاحتياجات الأساسية، لكن مع الغلاء وزيادة أوجه النفقات عملت مشرفة للأقسام الداخلية في جامعة الشارقة، حتى تم تعديل وزيادة رواتب المتقاعدين بقرار من المغفور له الشيخ خليفة بن زايد، طيب الله ثراه».

لكوني امرأة اعتادت على العمل قررت الانضمام لجمعية الاتحاد النسائي في إمارة الشارقة بشكل تطوعي، ما أتاح لي آفاقاً لتكوين علاقات جديدة واكتساب مهارات مختلفة.

توضح المازمي الأبعاد الإيجابية للتقاعد «كان للتحرر من أعباء العمل والالتزامات الوظيفية أثر كبير في استعادة نشاطي الصحي، وإيجاد الوقت الكافي للاهتمام بأبنائي وتخصيص جزء أكبر منه لتلبية متطلباتهم، وإعادة إحياء العلاقات الاجتماعية، وزيارة الأقارب والصديقات، والانتباه لمسألة الهدر في نفقات المنزل».

صعوبات تقبل التقاعد المبكر

ويتحدث الدكتور إبراهيم الحوسني، أستاذ الإعلام المساعد في كلية الإعلام في جامعة عجمان، عن تجربة التقاعد المبكر: «لم أتقبل فكرة منحي التقاعد في سن مبكرة بسبب ضرورات إعادة تنظيم الهيئات الإدارية العليا، لما له من أبعاد على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمهني الوظيفي، من حيث توفير مستوى معيشي مقبول، والانتقال للسكن في مكان جديد تتغير معه العلاقات الاجتماعية، ويصبح التواصل فيه مع الأسرة أكثر صعوبة».

يجب إجراء دراسات تحدد أسباب التقاعد المبكر

أما الكاتب والباحث والخبير الاقتصادي الدكتور نجيب الشامسي، فيجد أن «قرار الهيئة العامة للمعاشات والتأمينات الاجتماعية برفض قبول حالات 85 محالاً للتقاعد، هو قرار يتطلب معالجة حقيقية لظاهرة التقاعد المبكر والقسري، وذلك من خلال دراسة الأسباب والدواعي التي دفعت هؤلاء وغيرهم ممن سبقوهم وممن ينتظر استكمال المدة القانونية للتقاعد كي يتقدموا بطلبات تقاعدهم هروباً من واقع أصبح يشكّل قلقاً لهم».

ويكمل: «إن تحديد أسباب التقاعد المبكر يتطلب من الجهات المعنية دراسات علمية لتحديد أسباب تسرب الكفاءات المواطنة من الوظيفة العامة، لا سيما أن معظم الراغبين في التقاعد هم في عمر صغير، لكنهم ما يزالون يملكون الرغبة في الاستمرار في العمل وخدمة وطنهم شريطة توفر البيئة الوظيفية التي تحقق الاستقرار النفسي والأمان الوظيفي، وتحقق العدالة الوظيفية وتحول المؤسسات والدوائر الحكومية إلى مؤسسات إبداع، ومراكز إشعاع».

تصحيح الاختلالات الإدارية والوظيفية

ويرى د. الشامسي أن تشخيص مشكلة التقاعد المبكر والقسري هي أهم خطوة في إطار علاج الواقع الإداري والوظيفي في الإمارات، لكنها في نفس الوقت، في ظل وجود خبرات وكفاءات مواطنة قادرة على وضع قوانين وأنظمة تنسجم مع طبيعة التطور المطلوب، وتخلق مناخات وظيفية صحية. كما يتطلب تصحيح الاختلالات الإدارية والوظيفية، وصياغة إصلاحات إدارية حديثة، تسهم في إحداث تنمية إدارية واقتصادية».

على المسؤول أن يعي أهمية فهم العلاقة بينه وبين الموظف وبين الموظف والمؤسسة التي ينتمي إليها لما في ذلك من انعكاس إيجابي على إنتاجية العمل وتحسين مناخاته

ومن واقع ملامسته لهذه القضية، يطرح الشامسي مجموعة من الحلول: «يجب ألا يتساوى المبدع والمنتج والجاد في عمله والملتزم بلوائح وأنظمة المؤسسة أو الدائرة، مع الموظف المقصّـر والسلبي. ومن هنا فإن تغيير الأنظمة واللوائح والقوانين السارية والمعمول بها في الدوائر والمؤسسات إذا لم يجد تطبيقاً حقيقياً بعد تطويرها، وتحسين آليات العمل فيها، وإذا لم نجد مسؤولين يحملون الأمانة في التنفيذ، وإذا لم تتوفر العدالة الوظيفية بين الموظفين العاملين، فأهمية تحسين الظروف البيئية للوظيفة وتجديد علاقة الموظف بمؤسسته وتعزيزها، وتحسين المناخ الوظيفي بين الموظفين العاملين في المؤسسات والدوائر، لن يتم دون توفير عدالة العمل، وتوفير الحوافز المادية والمعنوية، حيث يجد كل موظف حقوقه المادية والمعنوية دون معاناة ودون صراع، وبالتالي يتحقق الأمن الوظيفي للموظف أو المسؤول.

ولا ننسى ضرورة مراقبة العلاقة القائمة بين المسؤول والموظف واستحداث برامج تدريبية وتأهيلية للموظفين على مختلف مستوياتهم الإدارية، بمن فيهم المسؤولون ليكونوا على دراية ومتابعة للتطور الذي يحدث في العلوم الإدارية والاقتصادية، ويعوا أهمية فهم العلاقة بين الموظف ومسؤوله، وبين الموظف والمؤسسة التي ينتمي إليها لما في ذلك من انعكاس إيجابي على إنتاجية العمل وتحسين مناخاته في الدائرة أو المؤسسة».

التقاعد القسري .. إحباط وكآبة

تبين مدربة تطوير الذات عزيزة الشيبة خطورة وقع كلمة تقاعد لما تحمله من وقع كبير في النفس، حيث «يشعر المتقاعد بأن دوره في الحياة انتهى وتبدأ مشاعر الخوف والقلق من المستقبل تغزو عقله لعدم وجود الشعور بالأمان، ويبدأ نمط الحياة في التغير، حيث يصبح وقت الفراغ أكبر فيهاجمه الإحساس بالملل والاكتئاب. فإن كانت جميع هذه الأعراض هي للمتقاعد الذي أنهى سنوات خدمته واستعد لهذه المرحلة، فما بالنا بالتقاعد المفروض أو القسري الذي يُصدم فيه المتقاعد بالاستغناء عن خدماته، ويصاب بالإحباط والاكتئاب بشكل أكبر مما يصاب به الشخص المتقاعد بشكل طبيعي».

على المتقاعد أن يغير طريقة تفكيره ونظرته للحياة، وأن يفكر خارج الصندوق ليرى الجانب المشرق من الحياة في هذه المرحلة

وتكشف الشيبة: «من أخطر سنوات التقاعد هي السنة الأولى، لذلك يجب أن تمتلك الأسرة الوعي الكافي بالوضع النفسي للمتقاعد، فنُشعره بأهمية وجوده بيننا وحاجتنا إلى المعرفة والخبرة الهائلة التي يمتلكها في الحياة، فهو مدرسة يمكن أن يكتب قصة حياته لتدرس وتقرأ، وبدلاً من البحث عن مستشار، فقد أصبح في بيتنا مستشار».