مَن منّا لم يبدأ رواية ليجد نفسه بعدها أمام الشبكات الاجتماعية؟ فقدان التركيز والانتباه هو مرض العصر، والإرادة وحدها غير كافية لمحاربة اللهو المنظّم. ومع هذا، فإن التركيز هو ملَكتنا المعرفية الأثمن. وثمّة حلول حتى لا يهزمنا التبعثر، وهي تقضي بخلق بيئة مناسبة وتطوير علاقتنا بالزمن، وبالحاجة الطارئة.. إنها وسائل تساعدكم على استعادة انتباهكم من أجل تحسين نوعية حياتكم وإتمام مشاريعكم وأحلامكم.
هذا ما توضحه بالتفصيل د. آن دي بوميرو في كتابها «كيف نستعيد القدرة على تركيز انتباهنا؟»، الذي تستهله بالتأكيد على أننا قادرون على استعادة تركيزنا، وبإمكاننا أن نتعلم القيام بهذا.
صحيح أن ما من عصا سحرية تسمح بالانتقال الفوري من التبعثر إلى التركيز، إلا أننا سنكتشف مجموعة من الوسائل تمكّننا من استعادة السيطرة. هي طريق نجتازها خطوة خطوة، بتواضع، وبشكل يومي، من أجل أن نفهم كيف نتعاطى مع انتباهنا لجعله أكثر مطواعية لإرادتنا. يستلزم الأمر خلق عادات جديدة تحرّرنا، والتخلي عن عادات سيئة، من دون أن ننسى أن هشاشتنا جزء مثير من إنسانيّتنا، وعلينا أن نقبل بأن الوصول إلى هدفنا يستلزم بذل الوقت والجهد.
حدود الإرادة
بقدر ما أريد التركيز لكتابة فقرة معينة، أترك مناسبات اللهو تدخل مجال تفكيري. أنقطع عن العمل كل خمس دقائق لمراجعة بريدي الإلكتروني، وإلقاء نظرة على هاتفي، أو أي شيء آخر.. التبعثر شقيق التردّد، والتأجيل الذي لا يصغي لأوامر الإرادة. والإرادة قدرة عجيبة، فهي لا بدّ منها، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها. هي ضرورية لكنها غير كافية.
مقاومة الإغراءات بواسطة الإرادة عمل منهك، وقليل الفعالية. ومن بين الأشياء التي تضائل مخزون الإرادة يأتي الانقطاع عن العمل للتعامل مع الأمور الطارئة، وزيادة شحنة المعلومات، أو تعدد المهمات. والنفس الإنسانية معقدة إلى درجة أنه يجب أن نقبل بكوننا لا نستطيع أبداً السيطرة على جميع تصرفاتنا. لكن ثمّة حلول للتعامل مع الذهن، ويجب اختبار ودمج كل تلك التي تملك الحظوظ الأكبر للنجاح. وككل أنواع السلوك، فإن الانتباه سلوك يمكن تربيته، وتهذيبه.
يتألف عمل الانتباه من توازن ينبغي ضبطه باستمرار بين التركيز المقصود، والتبعثر غير المقصود. علينا أن نكون يقظين ومتسامحين، في آن، إزاء عدم الاستقرار الطبيعي في انتباهنا. لا فائدة من الإحساس بالذنب، أو اعتبار التبعثر فشلاً، أو عجزاً، بل من المهم أن نقدم للذهن بيئة مسهِّلة تقلّ فيها مصادر اللهو. ويقضي الحس السليم بإبعاد الإغراءات، بدل إنهاك الطاقة في محاولة مقاومتها. فإقفال الشاشات وإبعاد الآلات التي ترنّ، أو تهزّ والجلوس في بيئة هادئة من دون موسيقى يسهّل التركيز. وحين يظهر مصدر للهو، عدم التوقف عنده، وتركه يأتي ثم يذهب لنعود بهدوء إلى تركيز انتباهنا على ما نريده.
العادات والقواعد التي تحرّر الانتباه
يحتاج الانتباه إلى ضبط، وهو ينحني بسهولة أمام العادات، كما أنه لا يحب أن يوضع أمام خيار. والطريقة المثلى لمساعدة الانتباه هي أن يتم إخضاعه لقواعد صارمة، وروتين، وشعائر. أنصح الطلاب مثلاً، الذين يحضّرون للامتحانات، أن يتبعوا توقيتاً منتظماً. أن يقضوا مثلاً ساعتين، أو ثلاث ساعات، في المكتبة الجامعية، وأن يلتزموا بهذا القرار من دون أن يهتموا بفعاليته. فهو سيكون فعالاً أحياناً، وغير فعّال أحياناً أخرى، لكن الالتزام بالقرار، وتكرار تطبيقه، هو الذي سيجعل الانتباه يستقر، وسيجعله أكثر فأكثر فعّالية.
فالبيئة الصارمة، والخالية من مصادر اللهو تساعد على الانتباه، في حين أن عكسها مصدر تبعثر. ومن الممكن التركيز على عمل مزعج حين لا يكون لدينا شيء آخر نفعله، لكن التركيز عليه في حين أن ثمة نشاطاً سهلاً وممتعاً يمدّ لنا ذراعيه يصير ضرباً من التحدّي. لا أدعو هنا إلى العزلة التامة، لكن الجلوس في بيئة مناسبة يساعد، إلى حد كبير، على التركيز.
التدريب، الإيقاع، التنظيم
مثله مثل القدرات المعرفية الأخرى، يحتاج تركيز الانتباه إلى تدريب. يجب أن نختار نشاطاً، أو أكثر، يحتاج إلى انتباه مركّز، ونتدرّب عليه بانتظام، مع إطالة أوقات التركيز شيئاً فشيئاً. فلنقل أننا اخترنا التدرُّب على الشعر، إذا كنا قد فقدنا عادة تعلُّمه عن ظهر قلب، سيبدو لنا الأمر مزعجاً ومتعباً، لكن لا شيء قادر على مقاومة التكرار.. حين نقطع التمرين إلى مراحل من أجل ألا ننهك موارد الطاقة لدينا بسرعة، ندرك أن دماغنا يستمتع بهذا العمل، وأن ذاكرتنا أكثر قوة ممّا كنا نتخيل. لا فائدة من محاولة حفظ الشعر مرة واحدة، سينتج عن هذه المحاولة عسر، هضم وخيبة! إن التكرار على مراحل متباعدة قادر على الانتصار على أي نوع من أنواع التعلُّم. أما إذا كنتم تفضلون الألعاب عليكم بتلك التي تستلزم إعمال الذاكرة كالشطرنج، أو البازل، أو الكلمات المتقاطعة.
بعد فترة من تركيز الانتباه الشديد، من الضروري إعطاء النفس فترة من الانتباه العائم، حيث نعيد ترميم قدراتنا حين لا نقوم بشيء، من دون الإحساس بالذنب. فترة راحة لتناول القهوة مع الزملاء والثرثرة معهم، التنزه قليلاً.. كلها نشاطات ضرورية لاستعادة توازن الانتباه. فمن المستحيل أن نبقى مركزين أكثر من بضع ساعات يومياً. وفي يوم عمل، يجب السعي إلى تنظيم مناوبة متناغمة بين نشاطات تستلزم تركيزاً عالياً، ونشاطات يمكن القيام بها بطريقة مريحة. وبالطبع، يجب أن نضع نشاطات التركيز العالي حين نكون بأفضل حال، بحسب إيقاعنا الزمني البيولوجي. فمنّا من يحب العمل باكراً، ومنّا من يكون في أفضل حال مساء.
التخطيط يحرر الانتباه. بكلمات أخرى، بقدر ما نعطي وقتاً زائداً لمهمة ما، بقدر ما أن هذه المهمة ستستلزم وقتاً إضافياً. فالعمل الذي لا بداية له ولا نهاية يتطلب زمناً لا نهاية له. وحينما نقلّص الوقت المعطى لمشروع ما، نزيد التركيز عليه، شرط أن يكون التخطيط واقعياً، وأن يترافق مع عدد لا بأس به من مراقبة عملية التقدم والتأكد منها. تنظيم الوقت هو المفتاح، والأخذ في الاعتبار نوع النشاط الذي نود القيام به، والقيود الخاصة بالبيئة. وحتى لا تبتلعنا طوارئ الحياة اليومية، من الضروري أن نخطط لأولويات الأسبوع، وأن نُخلي فترات من الزمن للعمل المركّز من دون انقطاع. ويجب أن تكون هذه الفترات «مقدسة»، بمعنى أنه يجب تنبيه الزملاء، وكل من يهمه الأمر، بأنك ترغب في ألا يزعجك أحد. من التخطيط الجيد تنبع القدرة على العمل بفعالية.
لا نصف عمل ولا نصف لهو
مع التكنولوجيا الحديثة، انتقل المكتب إلى المنزل، في حين أن نداء اللهو يبعدنا عن العمل. وهكذا تعمّ الفوضى بين أوقات وأماكن كانت في السابق منفصلة. يأتينا البريد الإلكتروني إلى السرير، في حين أن باستطاعتنا أن نهرب من اجتماع مزعج بواسطة هواتفنا الذكية. وهكذا، نجد أنفسنا نادراً ما نركز 100% على عمل محدّد، تاركين باستمرار نافذة مفتوحة على شيء آخر، يحمل متعة أكبر. لذا، يعاني النشاط الأساسي قلّة تركيزنا، في حين أن علاقاتنا الأسرية تعاني قلّة انتباهنا.
حتى نتمكن من تنفيذ مشاريع، أو عمل يستلزم تركيزاً عالياً، يجب أن نكرس أوقاتاً من العمل النوعي، أي العمل من دون انقطاع، العمل الهادف، ذو مدة محددة، وبداية، ونهاية. وتعتبر تقنية «بومودورو»، التي صمّمها فرنسيسكو سيريلو، فعّالة للغاية لأنها تقلب علاقتنا مع الوقت الذي يصير حليفاً لنا، بدل أن يكون عدواً. وتقضي التقنية بأن أفضل طريقة عمل هي برمجة فترات من 25 دقيقة، تتبعها فترة راحة من خمس دقائق. وبعدها ننطلق مجدداً لـ25 دقيقة. وبعد أربع جلسات، أي بعد ساعتين، نأخذ فترة راحة أطول، من نحو نصف ساعة. مبدأ التقنية هو تعزيز نوعية العمل على حساب مدته. فـ25 دقيقة هي المدة الأفضل حتى نبقى مركّزين من دون إرهاق، مع فترات راحة لا بد منها، شرط أن تكون راحة حقيقة نترك فيها ذهننا يشرد، ما يفترض ألّا نزور مواقع الشبكات الاجتماعية، بل أن نريح الذهن تماماً، ونتحرك قليلاً..
تعتبر هذه التقنية في غاية الفعالية بالنسبة إلى من يجدون صعوبة في الانطلاق بالعمل، ويشعرون بأنهم عاجزون عن التركيز لمدة طويلة. وهي مناسبة تماماً لتلامذة المدارس الذين لا يشعرون بحافز للدرس. كما أن فن تقطيع المشاريع الطويلة إلى مراحل بسيطة هو من أفضل الضمانات، من أجل السير قدماً. قد لا تكون هذه الطريقة مناسبة لكل أنواع العمل، لكن لا مانع من إطالة فترات العمل والتركيز إذا كان هذا ممكناً وفي حال احتاج العمل إليها.
اقرأ أيضاً: د. هدى محيو تكتب: الإرادة بكل بساطة