الأمراض المزمنة ليست قدراً مكتوباً بل هي ناجمة عن نمط حياة وغذاء يكفي أن نعمل على تغييرهما من أجل أن نستعيد الصحة والنشاط والرشاقة. بيد أن المصالح المالية للشركات الكبرى لا تتوافق مع هذه الدعوة.
هذا جزء مما يتطرق إليه هذا كتاب «السكر والأمراض المزمنة»، من تأليف د. مارك هايمان، الذي يقدم لنا أيضاً خريطة طريق غذائية كاملة لاستعادة الصحة أو المحافظة عليها، قوامها الأساسي ضبط تناول السكر الأبيض في غذائنا.
«سين-سين»، سمنة - سكري، مشكلة عالمية
ثمة عبارات تقول الكثير: مقاومة الأنسولين، متلازمة استقلابية، سمنة، ما قبل السكري، سكري... كلها أمراض تنشأ أساساً من مشكلة واحدة حتى لو تنوعت خطورتها ولكنها جميعها قد تحمل معها نتائج مميتة وتنضم جميعها تحت لواء حالة الـ «سمنة-سكري» أو حالة «السين- سين» أو مقدماتها. وهي حالة تنطلق من معدلات سكر ممتازة لتبلغ حالة مقاومة الانسولين وظهور السكري بعدها.
تبدأ حالة «السين-سين» من مقاومة خفية لهرمونة الانسولين وزيادة وزن طفيفة وصولاً إلى السمنة والسكري التي تتسبب بدورها بأمراض قلب وشرايين وخرف وسرطان ووفاة مبكرة. تطال حالة «السين-سين» أكثر من ملياري شخص في العالم، وتعتبر السمنة المتصلة على الدوام تقريبا بمرض السكري السبب الأساسي للوفيات التي يمكن تجنبها. فزيادة وزن بمعدل 5 إلى 7 كيلوغرام تضاعف مرتين خطر ظهور سكري من النوع الثاني، وزيادة وزن بمعدل 8 إلى 11 كيلوغرام تضاعفه ثلاث مرات.
إن السكري مشكلة عالمية، ففي الصين مثلاً، حيث السكري لم يكن معروفاً منذ أربعين عاماً، من المتوقع أن ترتفع أعداده في العام 2030 إلى أكثر من مئتي مليون مصاب مع ثلاث مئة مليون يعانون من حالة ما قبل السكري. فالإصابة بالسكري تزداد لدى الشعوب الأسيوية، الحساسة جداً إزاء السكري، كلما زاد اتباعها نمط الغذاء الغربي.
من هو المسؤول عن الطعام الردىء؟
من هو المسؤول الذي يقف خلف انتشار كل هذه الأطعمة الزهيدة الثمن السيئة النوعية والتي تستند أساساً إلى الدهون والسكر والملح لتصير مصدر إدمان يضاهي الإدمان الذي تتسبب به المخدرات؟ هذا الطعام الرديء (junk food) وغير المكلف بفضل الدعم الذي تقدمه الحكومات الكبرى، يحظى بسياسة تسويقية عالمية من العيار الثقيل إذ تتخطى الثلاثين مليار دولار سنويا. يعمل على إنتاج هذا النوع من الطعام مجموعة شركات زراعية وغذائية ضخمة، كما أن الدعم الذي تقدمه الحكومات يجعلنا نفهم كيف أن إصبعاً من الشوكولاتة الرديئة، والتي تحتوي على أكثر من 39 مكوناً، يكلف أقل من رأس ملفوف على الرغم من الكلف التسويقية التي رافقت هذا الإصبع.
تستهلك هذه الأطعمة المحولة على نطاق واسع حول العالم لتكون نتيجتها موجة من السمنة تجتاح العالم، حتى الفقير منه. وكلما زادت السمنة زادت الأمراض المزمنة المتصلة بالسكري والقلب والشرايين والكثير سواها. وهنا تأتي مصالح شركات الأدوية الكبرى، فكلما زادت أمراض البشرية زادت مبيعات هذه الشركات من الأدوية المضادة للكولستيرول والسكري وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب وسواها من الأمراض الناجمة عن نمط حياتنا وغذائنا.
فثلاثية الشركات الكبرى، الزراعية والغذائية والدوائية، تستفيد من المواطنين السمينين والمرضى. أما الحكومات في تلك البلدان فهي تكتفي بأن تساعدهم على شراء الأطعمة الرديئة وقد تساعدهم على شراء الأدوية الضرورية لعلاج أمراضهم. ففي العام 2010 مثلا، صدر القانون الزراعي في الولايات المتحدة ليخصص 43 مليار دولار من المساعدات للشركات الزراعية الكبرى من أجل دعم إنتاج السكر انطلاقا من الذرة وإنتاج الدهون انطلاقاً من الصويا، وكل هذا الإنتاج لا يكلف سوى قليلاً. لم تستخدم هذه المساعدات في دعم المزارعين من أجل أن يزرعوا فواكه أو خضار أو أطعمة أخرى مفيدة للصحة. فهذا القانون الزراعي الذي أغدق الأموال على الذرة والسكر والقمح، لم يخصص شيئاً لمنتجي الأطعمة الطازجة والمحلية والفصلية والعضوية.
لهذا السبب تجد نفسك وحيداً أمام أرفف السوبرماركت وحيثما وجهت نظرك، سواء أكان إلى المخازن أو المدارس أو المؤسسات الحكومية والبرامج الغذائية، سترى أطعمة محولة زهيدة الثمن، غنية بالسعرات الحرارية وفقيرة بالمواد المغذية، باختصار هي «شبه أغذية» أو «أغذية مزيفة». وكما ذكرنا، فإن أفقر الناس ليسوا بمعزل عن السمنة، فهذه الأخيرة تطال الجميع، الكبار والصغار، الفقراء والأغنياء، الجهلة والمتعلمين... لأسباب سنأتي في ما يلي على ذكرها.
الأسباب الحقيقية وراء السمنة
من المعتاد أن نلوم أخطاءنا الشخصية، من كسل وشراهة وقلة إرادة وما شابه، لتفسير أزمة السمنة الحالية وما يرافقها من أزمات اقتصادية وصحية. بيد أن الشواهد العلمية والتحليل الدقيق للسياسات والسلوكية المؤسسية أو الصناعية تضعضع هذا النوع من الاتهامات الموجهة للأفراد. في الحقيقة، إن الفرد لا يمكن اتهامه بأنه تسبب بالسمنة التي أصابته وأن الخطأ هو خطأه، وهذا لأن الأسباب الحقيقية للسمنة تتصل ببيئة دافعة نحوها.
نجد أنفسنا هنا في سياق حيث الضحية تصير هي الجاني ولا نعود نرى الظروف البيئية التي تقف خلف السمنة والأمراض الناجمة عنها والتي تقود إلى ما نسميه اليوم «البيئة المسببة للسمنة» المكونة من خمسة عوامل أساسية:
- الأطعمة المصنعة والمحولة والطعام السريع والأغذية «الفارغة» كلها مصدر إدمان: كما جئنا على ذكره، هذه الأطعمة جميعها هي مخدرات بيولوجية وتتسبب باستهلاك مفرط للسعرات الحرارية.
- تأثير الشركات الزراعية الكبرى على كوكب الأرض: يباع فائض الإنتاج الزراعي في الولايات المتحدة بأسعار زهيدة إلى البلدان الفقيرة ما يؤدي إلى تدمير الاقتصادات الزراعية المحلية الصغيرة ودفع المزارعين إلى هجرة أراضيهم وهذا من شأنه أن يزيد البطالة وأن يجعل البلدان النامية أو الناشئة معتمدة على المنتوجات الزراعية المحولة وعلى شراب الذرة.
- عمليات التسويق غير الأخلاقية والتي تتلاعب بعقول الناس وتدفعهم إلى اعتماد عادات غذائية غير صحية: لا تسيطر الحكومات على الممارسات التسويقية لشركات الأغذية الكبرى لا سيما الموجهة إلى الأطفال ولا تراقب وسائل الإعلام. إن الجهود الحثيثة للتسويق الغذائي الموجه إلى الأطفال عامل أساسي من عوامل السمنة. فقد صار الطفل البالغ سنتين من العمر قادراً على التعرف على أسماء ماركات الأغذية الرديئة في السوبر ماركت في حين أن عددا من تلامذة المرحلة الابتدائية يعجزون عن التمييز بين حبة البطاطس وحبة الطماطم.
يضاف إلى الهجمة الإعلانية عبر التلفزيون كل عمليات الترويج التي تستخدم الألعاب والألعاب التربوية والأفلام والأغاني والمشاهير وما يسمى بـ «الحملات التسللية» و«حروب العصابات» عبر الرسائل النصية والفيسبوك ويوتيوب وتويتر وتناول المشاهير لهذه المنتجات في البرامج ذات الشعبية الواسعة. وكلما كان المنتج رديئاً كان إنفاق الشركات على تسويقه أكبر. - لم تعد الأسر والعائلات تجتمع لتناول الطعام المحضر في المنزل معاً: نظراً لنمط الحياة والعمل، لم تعد الأسرة تجتمع حول مائدة الطعام. وقد جاء تكاثر مطاعم الطعام السريع وانتشارها ليسهلا عملية الحصول على الغذاء من خارج المنزل. ونشأ نتيجة هذا جيل جديد يجد صعوبات كبيرة في التعرف على الفواكه والخضار كما يجد صعوبة كبيرة في إعداد الطعام إلا إذا كان هذا الإعداد يقتصر على تسخين أطعمة جاهزة في المايكرويف.
- كثرة المواد السامة في البيئة: تسهم هذه المواد السامة في زيادة الوزن والسمنة والسكري. يجب أن ننتبه لكل ما نضعه في فمنا ولكن أيضاً يجب أن ننتبه إلى كمية البلاستيك والمعادن وملوثات الطعام الأخرى التي ثبت أنها تتسبب بتسميم ومباطأة عمليات الاستقلاب وتقود إلى السمنة.
في سبيل معالجة هذه البيئة المسببة للسمنة، يجب أن نحدد خيارات صحية للجميع وأن نركز على أنشطة خاصة يمكن القيام بها على مستوى شخصي أو ضمن البيئة التي نعيش فيها من أجل تطوير هذا المشهد الغذائي نحو الأفضل. كل شيء يبدأ بأنشطة فردية أو جماعية. إن إقامة عالم سليم هو عمل ثوري بالفعل ويمكن أن تبدأوا به منذ الآن.