ما إن انفرجت غمّة الجائحة قليلاً وأعادت صالات باريس فتح مسارحها ومتاحفها حتى جاء هذا المعرض ليقدم للجمهور الفرنسي وجبة دسمة من التلاقح بين الحضارات والفنون.
دعت إلى هذا المعرض دار «كارتييه» الباريسية العريقة للساعات والمجوهرات الراقية. وهو يستعرض تلك الحلي التي استوحت فنون الإسلام منذ بداية القرن العشرين لتحديث مجوهراتها، سواء من جهة الأشكال الهندسية، أو الجمع بين اللونين الأزرق الفيروزي والأخضر الزمردي، أي ألوان قباب المساجد في الشرق. وهو إلهام ما زال متواصلاً حتى يومنا هذا.
عنوان المعرض
يقام المعرض في متحف فنون الزخرفة والتزيين في العاصمة الفرنسية. والغاية منه شرح الترابط المدهش بين المجوهرات الفاخرة التي تقتنيها أنيقات العالم وبين أصباغ المنائر وكسوة المساجد، وكذلك التشابه مع زخارف الأقمشة التي استخدمت في زمن الدولة العثمانية أو الأثاث السوري المطعم بالصدف والصناديق المطعمة بالفضة والنحاس في بلاد فارس.
تقول المسؤولة عن قسم فنون الإسلام في متحف «اللوفر»، «إن المجوهرات وقطع الصياغة المعروضة جاءت نتيجة دراسة معمقة وترابط لم يجر استعراضه من قبل». أما إيفلين بوسيميه، أمينة قسم المجوهرات القديمة والحديثة في متحف فنون التزيين، فتكشف للصحفيين الذين تجولوا في المعرض «أنكم ستشاهدون، للمرة الأولى، عرضاً للحلي يستعرض كافة المراحل التي يتطلبها إبداع قطعة المجوهرات، من الألف إلى الياء».
حضر افتتاح المعرض المسيو لوي كارتييه، آخر السلالة من أحفاد مؤسس الدار، الذي يدرك أن جده الذي عاش في القرن الماضي لم يستوحِ كثيراً من حركة الفن الحديث التي كانت سائدة في باريس أوائل القرن العشرين، أي أنه لم يتأثر بالمدارس السوريالية والتكعيبية والوحشية ولوحات دالي وبيكاسو، بل سعى لأن يقدم لزبوناته نمطاً جديداً ذا تأثيرات شرقية وروسية، وفي نهاية المطاف استقر على الطابع الإسلامي والفارسي. إنها مرحلة البدايات، حين كان قسم أساسي من مجوهرات «كارتييه» مستوحى من فنون الإسلام، وهو أمر منح حداثتها طابعاً يختلف عن حداثة الفن الأوروبي المعاصر الذي كان متوهجاً في تلك الفترة.
تتجول في المعرض وتطالع قطع المجوهرات وبجانب كل منها صورة لزخرفات معمارية شرقية أو نقوش إسلامية من آسيا الوسطى. أنت أمام الأصل الذي استوحى منه الصائغ نقوش قلائده وتصاميمها.
أما اختيار ألوان الفصوص والأحجار الكريمة وتنسيقها مع بعضها فيأتي أيضاً من الشرق، مثل اللون الأخضر الذي توصف به الفردوس ومؤاخاته مع الأزرق اللازوردي والفيروزي الطارد للحسد والعين الشريرة.
مصادر إلهام
وفي ثلاثينات القرن العشرين، يعود الفضل إلى جان توسان، المديرة الفنية للدار، حين أدخلت اللون البنفسجي المستوحى من حجر الجمشت (الأماثيست) وابتكرت قطعاً ثلاثية الأبعاد مستلهمة من المجوهرات الهندية في إمبراطورية المغول.
من يصدّق أن هذه الزخارف والألوان والأشكال الهندسية ما زالت تظهر في تصاميم القرن الحادي والعشرين بل وتعتبر من المفردات الأساسية لـ «كارتييه»؟
مجوهرات فاتح علي شاه
يضم المعرض 500 قطعة من المعروضات، تتدرج ما بين الوثائق والصور والحلي والأدوات المنزلية التي يعود بعضها إلى بدايات تأسيس دار «كارتييه» في العام 1847 على يد الصائغ لوي فرانسوا كارتييه. وطبعاً فإن المعرض نتاج جهد أرشيفي هائل، وبحث في أصول الرسوم والزخارف الإسلامية وخرائط المساجد التي نقلت عنها تلك المصوغات.
وبعد لوي فرانسوا تسلم الراية ابنه ألفريد كارتييه ليدير نشاط الدار التي تخصصت في تجارة الحلي القديمة. ثم صار للدار مصمموها وراحت تبتكر مجوهرات خاصة بها. ومع حلول القرن العشرين بدأ الأحفاد بالبحث عن مصادر جديدة للإلهام. كان همهم العراقة والأصالة، وهم قد وجدوها في فنون الشرق الإسلامي بكافة تجلياتها.
وكانت باريس يومذاك قد أصبحت مركزاً مهماً من مراكز تداول تلك الفنون، لاسيما بعد استضافتها للمعرض الكوني. وفي 1903 نظم متحف فنون التزيين أول معارضه فيها، تبعه بمعرض ثان في ميونيخ بألمانيا عام 1910. ومن خلال هذين المعرضين تعرف حفيد كارتييه على تلك النفائس التي فتحت أمامه آفاق الوحي.