01 أبريل 2023

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

كاتبة صحافية

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

الأزياء الشرقية كثيرة ومتعددة المصادر، لكن عرض الأزياء الذي قدمته المصممة الجزائرية ياسمينة شلالي في باريس فاق التصور في جماله ودقة تفاصيله. وجاء في الوقت المناسب، مع بدء الشهر الكريم الذي ترتدي فيه البنات والسيدات ثياباً مستوحاة من أصالة التراث.

ياسمينة شلالي
ياسمينة شلالي

لا يمكن اختصار الحكاية في عباءة ووشاح، ولا في تطريز وخمار. إن استلهام التراث الشرقي في تصميم الأزياء هو فن يحتاج بحوثاً وتنقيبات وزيارات للمتاحف ومشاغل النسيج والاطلاع على عشرات الكتب والصور والجداريات والأشعار التي وصفت الثياب. وقبل كل شيء لابد من ذوق راقٍ ومخيلة تجيد صياغة كل ذلك التاريخ والتعبير عنه بالمقص والخيط والإبرة.

عروس الريف
عروس الريف

ياسمينة شلالي.. خاطت ثوب عرس بريجيت باردو

مرت على العاصمة الفرنسية باريس مصممات عربيات وشرقيات كثيرات، لكن القلة هي من تنجح في عاصمة الموضة وتترك بصمة طيبة وتحتفل بها وسائل الإعلام. ومن هؤلاء المصممة الجزائرية ياسمينة شلالي التي قدمت عرضاً مبهراً في معهد العالم العربي في باريس. إن ياسمينة هو اسم الشهرة واسمها الأصلي فاطمة الزهراء. وهي تعد عميدة مصممات الموضة في بلدها.

وقد جاءت وهي تسحب وراءها تاريخاً يزيد على 40 عاماً من السهر والعمل الدؤوب والإصرار على تذليل الصعاب. والحقيقة أن باريس ليست مدينة غريبة على المصممة المولودة في إحدى ضواحي العاصمة الجزائرية والبالغة من العمر 84 عاماً، فقد بدأت مسيرتها متدربةً لدى الفرنسي جاك إستريل، المصمم الشهير للثياب وللحقائب والأحذية، وفي مشغله أسهمت ياسمينة في خياطة ثوب العرس ذي اللون الوردي الذي ارتدته النجمة بريجيت باردو عند زواجها من جاك شارييه.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

الملك رانيا، وردة الجزائرية، كلوديا كاردينالي.. وغيرهن ارتدين تصاميمها

عادت ياسمينة إلى بلدها عام 1963 غداة الاستقلال وفتحت أول دار للأزياء الراقية في الجزائر، ومنحت الدار اسمها «ياسمينة للخياطة» واختارت منذ البداية أن تمنح تصاميمها هوية محلية تقليدية. وطوال 40 عاماً من الكفاح والعناد احتلت مكانتها اللائقة والرفيعة، وكان من بين زبوناتها زوجات الرئيسين الهواري بومدين والشاذلي بن جديد، والملكة رانيا، وكذلك سها عرفات وإيفانكا قرينة الرئيس اليوغسلافي السابق تيتو. وفي فرنسا ارتدت تصاميمها السيدة الأولى السابقة دانييل ميتران. ومن الفنانات المطربة وردة الجزائرية والمغنية الإفريقية ميريام ماكيبا والممثلتان ميشيل مورجان وكلوديا كاردينالي. وهي تفتخر بأن رائدة الفضاء الأولى في العالم فالنتينا تيريشكوفا ارتدت زياً يحمل علامة ياسمينة.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

لم يكن من أهداف ياسمينة شلالي، استنساخ الثوب النسائي الجزائري التقليدي؛ بل إعادة إحيائه بنفس جديد. وهذا يعني تطويره من خلال قصات تلائم نساء هذا الزمان وكذلك الاستفادة من الخامات المستحدثة والأقمشة المبتكرة. أما التطريزات التي ترافق الزي الشرقي في العادة، فهي لدى ياسمينة نقوش تجمع ما بين شمال إفريقيا ووسط آسيا والجزر الهندية. وهي توليفة منحت تصاميمها صبغة عالمية.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

ياسمينة شلالي.. مقاومة وطرد إلى باريس

في التسعينات وسنوات الاضطراب السياسي، أي ما يسمى بالعشرية الدموية في الجزائر، تعرضت شلالي للتهديد. كان المتطرفون يحاربون رموز الفن والأدب والجمال. واضطر كثيرون منهم إلى مغادرة البلد مؤقتاً، وهي منهم. وكانت باريس محطتها الأقرب. وخلال سنوات طوال كانت تنتقل بعارضاتها بين المدن والعواصم، وحلت في دبي لتقديم تصاميمها الباذخة التي تحيل النساء حوريات من ألف ليلة، ثم تعود إلى شقتها في العاصمة الفرنسية التي هي أيضاً مكان عملها، غير بعيد عن متحف «أورساي» للفنون المعاصرة.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

تغلب ألوان الصحراء على أزيائها، ثم يبزغ فجأة لون أحمر صارخ مثل زهرة شقائق النعمان، أو أصفر مثل شمس المشرق، أو أزرق غامق مثل أعماق البحر. وهناك غموض وشيء من العنفوان يغلفان العارضات. ويبدو أنهما قريبان من شخصية هذه السيدة ذات العينين النافذتين الكحيلتين. وهي شخصية تشبعت من مصدرين، الأول صلابة الثورة الجزائرية وشجاعة مجاهديها، والثاني إقامتها في باريس، حيث وجدت نفسها محاطة بالفنون ومتعة العيش وجرأة الابتكار. وهي لا تنسى أنها كانت محرومة في طفولتها من الالتحاق بالمدرسة لأن الاستعمار فرض على أبناء البلد الاتجاه نحو المهن اليدوية.

وهكذا وجدت نفسها في مدرسة مهنية تعلم البنات كيفية كي الثياب، مثلاً. كما أنها لا تنسى انخراط أسرتها في المقاومة وتهيئة مخابئ للمجاهدين، الأمر الذي كان سبباً في اعتقالها مع شقيقتها. وبسبب صغر سنها تم طردها خارج الحدود، وكانت باريس هي الملجأ الذي اكتشفت فيه أن الفرنسيين يمكن أن يكونوا طبيعيين ولطفاء ولا يشبهون فظاظة المحتلين. وفي باريس تعرفت أيضاً إلى العنصرية ضد الأجانب. لكن تلك التصرفات لم تمنعها من استكمال دراستها والتفوق فيها.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

حين بدأت التدريب في مشغل جاك إستريل، كانت خجولة ضئيلة القامة تختبئ وراء العارضات، لكنها مجتهدة، الأمر الذي دفع صاحب الدار إلى قبولها عاملةً فيها. كما أنها شاركت عارضةً حين احتاجوا إلى من تقدم زي راقصة شرقية في أحد المهرجانات. وكان إستريل هو الذي اختار لها اسم ياسمينة، على غرار ابنة النجمة ريتا هيوارث التي كانت متزوجة من الأغا خان.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

أول عرض أزياء في الجزائر لياسمينة شلالي

عادت إلى الجزائر لأنها كانت مؤمنة بواجب المشاركة في مقاومة الاستعمار. وقامت بما يمليه عليها ضميرها من نقل رسائل بين مجاهدي جبهة التحرير الوطني. وفي الوقت نفسه كانت تبحث عن عمل تعيش منه. لكن سلطات الاحتلال اعتقلتها ثانية مع رفيقة لها.

وعندما فتشوا أوراقها استغربوا من العثور على عناوين فنانات فرنسيات وعارضات أزياء. وكانت تسمع أصوات استغاثة وتعذيب في غرفة مجاورة وقيل لها إنهم يعذبون والدها. كما جربوا كسر شوكتها من خلال التنقل معها في سيارة عسكرية مكشوفة تسير في شوارع العاصمة لكي يتصور الناس أنها من العملاء. وفي إحدى المرات اقتادوها إلى برج كنيسة «سيدة إفريقيا» وهددوا بإلقائها من السطح. ثم انتهت تلك الحقبة بانتصار الثورة وتوقيع معاهدة «إيفيان» التي أعلنت استقلال الجزائر.

ياسمينة شلالي.. أمسية ساحرة في باريس لعميدة مصممي الموضة في الجزائر

مع الحرية، قدمت ياسمينة أول عرض لأزيائها. وكان الأمر غريباً بالنسبة لنساء بلد خارج من مرحلة صعبة. إن عروض الأزياء تقليد فرنسي، لكن من قال إن الأناقة والجمال هي احتكار لشعب دون آخر؟ بل إنها تجرأت وأطلقت على بعض تصاميمها أسماء ثورية، وهو أمر أثار جدلاً في حينه. وبعد استقرار الحال في البلد تزوجت من رفيق النضال القائد عزالدين، بعد أن عرفته باسمه الحركي: رابح زراري.

لكن الأوقات الآمنة لا تدوم. فقد تراجعت الأوضاع في الجزائر ووصلتها تهديدات بالقتل ونجت من محاولات اغتيال. ووجدت ياسمينة شلالي نفسها تعود إلى باريس. إنها تحمل هويتها الوطنية في دمها حتى لو عاشت خارج أرض الوطن، وبتلك الهوية واصلت العمل وافتتحت ورشة كبيرة للخياطة وأسست لنفسها علامة تجارية. وهي اليوم تمتلك ورشة للتصميم والخياطة في العاصمة الجزائرية، يعمل فيها 200 شخص.