04 يوليو 2024

من الحرب إلى النجومية.. "مامور ماجينج" عارض أزياء سوداني يُذهل باريس في أسبوع الموضة

كاتبة صحافية

من الحرب إلى النجومية..

لم يكن طفل حرب فقط، بل صبيّ مجبر على حمل السلاح والقتال في حرب قسّمت بلاده وشتّت أهله، كان مامور، أو مأمور ماجينج، من أولئك الذين تطلق عليهم وسائل الإعلام تسمية «الأطفال الجنود»، لكن مصير الولد السوداني تغيّر من الضدّ إلى الضدّ خلال سنوات قلائل، وهو اليوم يسير على منصات عروض الأزياء برأس مرفوع مع عينين تختزنان الكثير من الأسى.

هرب الفتى من أهوال الحرب وانقلبت حياته، فهناك من ضربات الحظ ما تخدم صاحبها بشكل لم يكن يخطر له على بال ولا في الأحلام، إن مامور هو اليوم ليس مجرد شاب يعمل في عرض الأزياء بل نجم من نجوم الموضة، تطلبه كبريات دور التصميم ما بين باريس وميلانو ولندن ونيويورك، كما صارت له شركة للثياب تحمل اسمه.

من الحرب إلى النجومية..

في أسبوع باريس الأخير للموضة شاهدنا مامور بوجه مغلق وهو يعرض زياً أسود اللون من مجموعة «لوي فويتون» للرجال لربيع وصيف 2025، وكان الثاني الذي يظهر على المنصة ويثير انتباه الحضور ويستحق تصفيقهم، الفضل في هذا التحول يعود إلى فاريل وليامس، الفنان الأمريكي الشاب الأسمر الذي يجمع عدة مواهب: التأليف والتلحين والغناء والإنتاج وتصميم الأزياء وعرضها، وقبل ثلاث سنوات كان مامور ما زال مقيماً في السودان، يرتدي زي الجنود الكاكي.

«مامور ماجينج».. 59 عرض أزياء في عام واحد!!

يبلغ مامور من العمر 21 عاماً، من المؤكد أنّه مولود تحت نجمة سعد، ورغم بلوغه حياة الأمان والثراء والشهرة، فإن الحرب لم تغادر ملامحه الصارمة والغاضبة، للتدليل على مدى نجاحه يكفي أن نعرف أنه شارك في 59 عرضاً للأزياء في مواسم العام الماضي، وبهذا فإنه كان العارض الأكثر طلباً من المصممين، في هذا العام تفتّحت أمامه بوابات لوي فويتون، وشارك في العرض الرائع الذي أقيم على العشب الأخضر لحدائق منظمة «اليونسكو» في باريس، وهي المجموعة التي صممها فاريل.

فاريل وليامس اكتشف مامور
فاريل وليامس اكتشف مامور

لا شيء كان ينبئ هذا المقاتل في الحرب الأهلية بمصير باريسي، لقد تمّت الانتقالة في غضون سنتين أو ثلاث فحسب، وكانت البداية من خلال تسجيلات بعثها مامور من قريته في جنوب السودان عبر حسابه في «إنستجرام»، وفيها كان يرقص ويغني بشكل متميز، إن شبان العالم وشاباته يرسلون عبر «تيك توك» و«إنستجرام» و«يوتيوب» ملايين التسجيلات كل يوم، لكن تسجيل مامور وقع تحت عيني إيف كونستان، صياد المواهب الفرنسي الذي يكتشف الفنانين الواعدين والخبير في العثور على عارضي أزياء من بلاد الخارج.

تلقى مامور اتصالات من كونستان لكنه ظل طوال عام متردّداً في الاستجابة، كان يخشى أن تكون الدعوة من شخص محتال، هو لم يخبر والدته بالموضوع إلا بعد أن تلقى من وكالة «إيليت» الشهيرة موعداً للسفر وتأشيرة دخول لفرنسا، كان اختياره حدثاً نقلته وكالة الأنباء الفرنسية، وجاء في التقرير أن أم مامور كانت قلقة من سفر أكبر أبنائها لأنه كان «رجل العائلة»، لكن الولد المراهق وعدها بأنه لن ينساها ولن يهمل أشقاءه مهما حدث، كل ما هنالك أنه سيذهب ليؤمّن لهم حياة أفضل.

من الحرب إلى النجومية..

مجموعة «مامور ماجينج» للأزياء

وصل إلى أوروبا وتخاطفته كبريات دور الأزياء على مدى السنتين الماضيتين: «بالنسياجا»، «كنزو»، «بوتيجا فانيتا»، «أنس ستوديوز»، «ريك أونز»، وعشرات غيرها، غالباً ما كان يقدّم عدة أزياء في العرض الواحد. وبهذه الوتيرة نجح الفتى السوداني في أن يكون الملهم لدار «بالمان» للأزياء، هو الذي افتتح عرضها في موسم باريس الأخير، لكن ضربته الكبرى كانت اختيار فاريل وليامس له للمشاركة في عرض «فويتون»، وكذلك اختيار جون جاليانو له لعرض «ميزون مارجييلا»، كما شارك في عرض «جاكموس» في مدينة نيس.

في 23 من يناير الماضي، دشن مامور ماجينج صفحة جديدة في حياته المثيرة الجديدة، ففي عزّ موسم باريس للخياطة الراقية قدّم مجموعته الخاصة للأزياء التي تحمل توقيعه: Mamour1/2.

من الحرب إلى النجومية..

لقد تحول الشاب من عارض إلى مصمّم، إنه يجد إلهامه في ذلك البلد الأفريقي البعيد، فهو مسكون بطبيعته وألوانه الحارة وعذوبة نسائه وجمال صحاريه وواحاته وغاباته. كان يبتسم بعد العرض، في واحدة من ساعات انشراحه القليلة، ويقول «تصوّرت أنني سأبقى أعرض الأزياء طوال حياتي لكنّني اكتشفت أن عليّ البدء بمهنة أخرى». وقد كشفت ابتسامته عن لآلئ يلصقها على أسنانه، grillz، حسب الموضة الشبابية الحالية، لقد أدرك أن عمر عارض الأزياء هو أقصر من عمر أزهار شقائق النعمان، تذبل حال لمسها.

قام مامور بتمويل عرضه الخاص من المال الذي جمعه من عروضه، وقد منحه عنوان «منطقة حرب»، فما زال السودان الشقيق يعيش مآسي الحرب منذ 2020، والتي خلّفت 380 ألف قتيل وتسببت في كارثة إنسانية، في حساباته على مواقع التواصل يحرص مامور على نبذ الحرب ولا ينسى أنها تقلق عائلته ووالدته وأشقاءه.. لقد وعدهم ألا يهملهم، حين يسأله الصحافيون عن حياته السابقة يكتفي بالقول: إنها كانت تجربة صعبة، دون الدخول في التفاصيل، هو يفضّل التعبير عما عاشه من خلال الخطوط التي يرسمها ويترك للخياطات تنفيذها على أقمشة تناسب الفكرة.

من الحرب إلى النجومية..

خياطة وأقمشة تروي الحرب

على منصة العرض، نرى لعبة تجري على قصّات للقماش رمزية وشبه وحشية، نكاد نشعر بأعداء طفولته الذين يهاجمون شعبه، الدمية السوداء تحت ذراع عارضة أزياء تصوّره هو أو كل من أشقائه تحملهم أمّهم لحمايتهم من الحرب، يقول «يمكننا أن نجعل الحرب تبدو أنيقة، ولكن هذا هو المكان الذي نشأت فيه»، كانت أزياءً تأخذ الجمهور إلى ذكريات جندي طفل، بين الزي العسكري والخوف وثقافة العصابات والعنف الذي يسعى الأهالي للتغلّب عليه.

في نهاية العرض يصل مامور لتحيّة الجمهور مرتديّاً فراءً أبيض، في إشارة إلى جلود الحيوانات التي ينام عليها أفراد مجموعته العرقية «الدينكا»، وفي لحظة مليئة بالإحساس نراه ينهار على المنصة وكأنه يسجد شكراً للسماء التي جعلته من الناجين، لقد خرج من الدماء وصار الابن المتبنى للأضواء، أما دموعه فسببها أن العرض جاء بعد خمسة أيام من تاريخ وفاة والده هناك في البلد المنكوب.