كلنا يحمل آثاماً وذنوباً من سلوكيات خاطئة، أو تقصير في العبادة طوال العام، ويأتي رمضان ليكون فرصة للجميع للتخلص من الذنوب والآثام، وهنا ينبغي أن يسعى كل مسلم عاقل للاستفادة من شهر الرحمة والمغفرة الذي وصفه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بقوله «أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار»، فكيف يستفيد المسلم من هذا الشهر الكريم ليتخلص من ذنوبه، ويخرج من رمضان متخففاً من الآثام أو متخلصاً منها؟
هذا السؤال الكبير وضعناه على مائدة عالم أزهري كبير وفقيه من أبرز فقهاء العصر، وهو د.نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق، ليأخذ بأيدينا جميعاً إلى (توبة نصوح)، وسلوك حميد، خاصة في العشر الأواخر من الشهر الفضيل.. وفيما يلي خلاصة ما قاله وقدمه من نصائح وتوجيهات دينية من إجاباته عن تساؤلات «كل الأسرة»:
أول خطوة للإنسان على طريق التوبة النصوح تتمثل في اعترافه بالذنب، ثم الإقلاع عنه، والندم على فعله، والاستغفار منه، والعزم على ألاّ يعود إليه أبداً
في البداية سألنا العالم الأزهري: رمضان شهر توبة ومغفرة.. فهل طريق التوبة سهل وميسور لكل العصاة والمذنبين في هذا الشهر الفضيل؟
هذه الأيام المباركة فرصة لكي يراجع كل إنسان نفسه، فكلنا أو معظمنا ارتكب ذنوباً طوال العام، أو الأعوام السابقة، ويلتمس من خالقه العفو والمغفرة والرحمة والعودة إلى طريق الله المستقيم، فالتوبة سلوك العقلاء والصالحين في كل وقت، وخاصة في شهر رمضان، وأول خطوة للإنسان على طريق التوبة النصوح تتمثل في اعترافه بالذنب، ثم الإقلاع عنه، والندم على فعله، والاستغفار منه، والعزم على ألاّ يعود إليه أبداً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وفي كل وقت- وخاصة في رمضان- يفتح الله سبحانه وتعالى طريق التوبة لكل المذنبين من عباده، ويحثهم على المبادرة بالتخلص من المعاصي والذنوب؛ حيث يقول عز وجل: «وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون»، ويقول أيضاً: «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار...».
فطريق التوبة سهل وميسور لكل العصاة والمذنبين، وهنا لا يدعي أحد أنه بلا ذنوب وآثام، فلا يدري كل منا ما هو موجود في سجله لدى خالقه، فقد يفعل شخصاً شيئاً ويعتقد بأنه مباح ومشروع، وهو من المحرمات، وقد يتصدق إنسان طمعاً في الأجر والثواب ويتفاخر بصدقته، أو لا يخرجها ابتغاء وجه الله، فيأخذ بدلاً من الحسنة سيئة، لأنه لم يخلص النية.
معنى هذا أن واجب الإنسان أن يبادر بالتوبة حتى ولو كان على يقين أنه لم يرتكب معصية؟
نعم، واجب المسلم الذي يسعى إلى مرضاة خالقه أن يكون دائم التوبة حتى ولو كان ضميره مستريحاً، وإحساسه أنه ما ارتكب ذنباً أو قصر فيما عليه من واجبات دينية أو دنيوية، والذنوب قد يرتكبها الإنسان على سلوكيات لا يدرك حرمتها.. فمثلاً بعض الرجال ينظرون بشهوة إلى النساء وهم لا يعرفون أن هذا السلوك محرم شرعاً، والبعض من الناس تعود على ممارسة الغيبة والنميمة يومياً، وهو لا يدرك تشديد الإسلام في التحذير من الرذيلتين لما يترتب عليهما من مصائب كثيرة، ويحث أن يأكل الإنسان حراماً دون أن يدري خطورة ذلك على حياته كلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل جسد نبت من حرام فالنار أولى به».
ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه كان لا يتوقف عن مناجاة خالقه بأن يغفر له ما ارتكب من ذنوب صغائر فقد كان معصوماً من الكبائر، ومن بين دعواته المأثورة: «اللهمَّ اغفرْ لي خطيئَتي وجَهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلمُ به مني، اللهمَّ اغفِرْ لي جَدِّي وهَزْلي، وخَطئي وعمْدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهمَّ اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به مني، أنت المُقَدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ، وأنت على كلِّ شيءٍ قديرٌ».. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا «اللهمَّ لك أسلَمتُ، وبك آمَنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنَبتُ، وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمتُ، فاغفِرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسرَرتُ وما أعلَنتُ، أنت المُقَدِّمُ، وأنت المُؤَخِّرُ، لا إلهَ إلا أنت».
رمضان ليس موسماً سنوياً للطاعة والعبادة والالتزام الأخلاقي ثم ينتهي كل ذلك بعد رمضان، فالمسلم مطالب بالحرص على عباداته في رمضان وفي غير رمضان
البعض يعتقد بأن التوبة من الذنوب لها مواسم معينة مثل شهر رمضان أو أداء فريضة الحج أو مناسك العمرة أو تأخيرها لمرحلة الشيخوخة.. فماذا تقولون لهؤلاء؟
التوبة ليس لها وقت معين، أو موسم ينبغي أن ينتظره الإنسان ليتوب فيه، فكل إنسان مطالب أن يبادر بالتوبة بمجرد الوقوع في الإثم، وهذا لا يتعارض مع أن الله سبحانه وتعالى قد جعل بعض الفرائض مكفرات للذنوب، وتخليص المسلم من معاصيه، وتطهيره من آثامه مثل شهر رمضان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» وفريضة الحج التي بشر عليه الصلاة والسلام كل من يؤديها بإخلاص، ويلتزم بالآداب والأخلاقيات السامية في أدائها بغفران ذنوبه، فقال صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه». فالإنسان لا يدرى متى ينتهي عمره، فقد يموت بعد ارتكابه الذنب مباشرة، ويلقى الله دون توبة وهو محمل بالذنوب والآثام، ولذلك لا معنى لتأخير التوبة، فالمطلوب من المسلم أن يبادر بها بعد ارتكاب الذنب مباشرة.
الكثيرون يكفون عن المعاصي في رمضان ويحرصون على العبادة، فإذا ما انتهى رمضان عادوا إلى حياتهم الطبيعية بما فيها من معاص وآثام وذنوب.. بماذا تنصحون هؤلاء؟
من يفعل ذلك لا يدرك معنى الصوم وأهدافه، فرمضان ليس موسماً سنوياً للطاعة والعبادة والالتزام الأخلاقي ثم ينتهي كل ذلك بعد رمضان، فالمسلم مطالب بالحرص على عباداته، وأداء كل واجباته الدينية والتعامل مع الناس بخلق حسن، وتجنب كل ما نهى الله عنه في رمضان وفي غير رمضان، والتزام الإنسان بالطاعة في رمضان أو التظاهر بذلك ثم العودة إلى المعاصي بعد رمضان أكبر دليل على أن هذا الإنسان لم يستفد من الصوم كما ينبغي، فالصوم من شأنه تهذيب سلوكيات الإنسان طوال العام، ولو اعتبرناه موسماً سنوياً فهو موسم لمراجعة النفس وتهذيبها، وليس موسماً للعبادة بمعنى أن نحرص عليها فيه ثم ننصرف عنها بعده، هذا انفصام مرفوض في شخصية المسلم، وهؤلاء لا يخدعون إلا أنفسهم.
هل يتساوى جميع الصائمين فى الأجر والثواب؟
الصوم درجات ومراتب، والإنسان الذي يؤدي فريضة الصوم بإخلاص، ويحرص على الآداب والأخلاقيات، ولا يفعل محظوراً أو محرماً خلال رمضان، ويؤدي باقي العبادات من صلاة، وزكاة، ويحرص على الصدقات التطوعية، ويطعم الفقراء والمساكين، ويصل رحمه، ويبر أهله.. لا يمكن أن يتساوى أجره وثوابه مع إنسان يقضي رمضان بلا روح؛ حيث يصوم ولا يكف عن أذى الناس، أو يرتكب سلوكيات مرفوضة شرعاً مثل: الغيبة والنميمة، أو يهمل عمله، أو يسيء إلى زوجته، لا يمكن أن يتساوى أجر وثواب هذا مع أجر وثواب ذاك، فالله سبحانه من أسمائه وصفاته العدل، وهو يعطي لكل إنسان على قدر عمله وجهده وإخلاصه.
ننصح بالحرص على قيام الليل فى العشر الأواخر من رمضان، فهي من السنن والنوافل التي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها في هذه الأيام المباركة
ما الذي ينبغى أن يحرص عليه المسلم في العشر الأواخر من رمضان؟
المسلم مطالب أن يكون قريباً من خالقه في كل وقت، وخاصة خلال شهر رمضان، وهو مطالب في هذه الأيام المباركة أن يتعبد بالصلاة والصوم والصدقات، وكل صنوف الخير، ويتوجه إلى خالقه بالدعاء الصادق حتى يتقبل صلاته، وصيامه، وزكاته، وتوبته، ويخلصه مما وقع فيه من معاصي وذنوب، وكل إنسان مطالب بأن يكثر من ذكر الله في كل الأحوال، وأن يتضرع إليه في أوقات اليسر، وفي المحن والشدائد، فالمسلم مطالب بأن يكون قريباً من خالقه في كل الظروف والأحوال، وفي مثل هذه الظروف الصعبة عليه أن يكون أكثر قرباً من الله.
واللجوء في هذه الأيام التي فضلها الله على باقي أيام رمضان؛ حيث خصها بليلة هي خير من ألف شهر كما أخبرنا القرآن الكريم، على الإنسان أن يكثر من قيام الليل والاعتكاف إن تيسر له، وأن يكثر من الدعاء، وهو كله منافع روحية، ويكفي أنه يحقق للإنسان راحة نفسية حتى ولو لم تتحقق أمنياته، ولا يجد استجابة لدعواته، فالإنسان بدعائه يشكو همومه ومتاعبه لخالقه، ومن هنا ننصح الجميع بالابتهال الى الله بصدق وخشوع وثقة في عطاء الخالق سبحانه.
كما ننصح بالحرص على قيام الليل فى العشر الأواخر من رمضان، فهي من السنن والنوافل التي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها في هذه الأيام المباركة؛ حيث «صلاة التهجد»، وهي غير صلاة القيام التي تصلى بعد صلاة العشاء، فصلاة التهجد تكون في الثلث الأخير من الليل وهذا أفضل أوقاتها، وقد ورد في فضلها نصوص كثيرة، وقد أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: «ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا».. وهذا الأمر وإن كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن عامة المسلمين يدخلون فيه بحكم الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وقيام هذه الأيام بالعبادة والطاعة من أفضل الأعمال في العشر الأواخر من رمضان، وقد وصف الله تعالى عباده الذين يحرصون على هذه الفضيلة بقوله: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما»، وشهد لمن يقوم الليل بالإيمان وأن لهم عند الله تعالى أجراً لا يعلم مقداره أحد سواه.