"ماتت حزناً على زوجها بعد رحيله بساعات".. القرآن يقودنا إلى اعتدال المشاعر الإنسانية
يعيش الإنسان حياته كلّها بين فرح، وحزن، ويتطلع دائماً إلى متع الدنيا، وهو لا يدري ما يحقق له السعادة فعلاً، أو يجلب له الشقاء.. لذلك يظل يتطلع ويسعى لتحقيق تطلعاته وطموحاته، وهو ما يحثّ عليه الإسلام.
لكن مع هذا السعي الجاد لتحقيق التطلعات والطموحات، فإن ديننا يحث دائماً على الرضا بما قدّره الله للإنسان، وأن يؤمن الإنسان بأن قدر الله فيه الخير، حتى لو بدا له خلاف ذلك.
في واقع الحياة أناس يفرحون ويموتون من الفرح المبالغ فيه، وآخرون يموتون من الحزن والأسى على ما فاتهم من حظوظ الدنيا، ومتاعها..
وهنا يحضر القرآن الكريم لكي يحمينا من الصدمات المفاجئة، ويحقق لنفوسنا الاستقرار والطمأنينة، فيأمرنا بعدم المبالغة في الأمرين معاً.. الفرح والحزن.. وأن نسلم كل أمورنا لله، بعد أن نجتهد ونسعى.. فكيف يتحقق ذلك على أرض الواقع؟
القصص والحكايات التي تؤكد ضرورة عدم المبالغة في الفرح والحزن كثيرة، ومتنوعة، وهي تقودنا إلى ضرورة اعتدال المشاعر الإنسانية، وعدم المبالغة في حالة السعادة، أو الحزن، لتأثير ذلك في حياتنا.
فقد مات شاب في مدينة الإسكندرية المصرية مؤخراً، نتيجة سعادته بالحصول على البراءة في قضية قتل، ومات مشجع أهلاوي مصري بعد أن فاز فريقه على غريمه نادي الزمالك، وفي المقابل، ماتت زوجة مصرية بعد رحيل زوجها بساعات لتلحق به نتيجة صدمة نفسية عصبية لوفاته، لارتباطها الشديد به، ومات أب في الأربعين من عمره بعد موت طفله الذي انتظره لسنوات..
وهكذا تتنوع الحوادث المؤسفة والمؤلمة الناجمة عن الإفراط الشديد، في الفرح أو الحزن.
كيف نتفادى الصدمات النفسية؟
يقول د. محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الأزهر «يجب على الإنسان أن يتحصّن بالإيمان بقضاء الله وقدره، ويتحلى أمام الأحداث الجسام التي يتعرض لها بالثبات الانفعالي، وعدم المبالغة في التأثر بالأحداث المحيطة به، بما يؤثر في حياته، العامّة والخاصة، والتجارب الشخصية المريرة التي يمر بها؛ فحياة الإنسان متقلبة بين الفرح والحزن، وقد يسيطر عليه الشعور السلبي فلا يتأثر كثيراً بما يحيط به. والواقع أن كل هذا ليس مطلوباً، لا من الناحية الصحية النفسية والبدنية، ولا من الناحية الاجتماعية».
ويضيف «تعاليم الدين تقودنا إلى حياة معتدلة في كل شيء بعيداً عن المبالغات، أو الشعور السلبي الذي يلغي وجودنا في الحياة كعناصر فاعلة، ولها دور في رسم صورة الحياة السعيدة المستقرة التي ينشدها كل إنسان».
لذلك يحذر د. المهدي من الصدمات التي تنتقل بالإنسان إلى حالة مبالغ فيها من الحزن، أو السعادة، وكلا الأمرين خطر على حياة الإنسان، وفي واقع حياتنا هناك أشخاص كثر فقدوا حياتهم نتيجة هذا الانفعال المفرط ،فرحاً أو حزناً.
ويشدد أستاذ الطب النفسي على أن هناك أمراضاً كثيرة ومخاطر جمّة تلحق بالإنسان نتيجة الإفراط في الحزن، والتوحد مع الضحية، ولذلك نرى أشخاصاً يموتون بعد رحيل أحبّاء لهم بساعات، أو أيام، وهذا ليس مطلوباً، وعلينا أن نحصّن أولادنا منذ صغرهم ضد هذا الشعور الذي يعتبره البعض نوعاً من الوفاء، والإخلاص، والارتباط النفسي الوجداني، بين بعض الناس. علينا أن نربّي أطفالنا منذ الصغر على التوازن النفسي، لكي نحميهم من الصدمات العصبية.
ويقول «من الأمراض الخطرة التي تصيب الإنسان نتيجة الإفراط في الحزن «الاكتئاب، وسيطرة الأفكار الانتحارية، نتيجة الشعور بعدم الرغبة في الحياة»، فضلاً عن القلق الدائم، والتوتر، والإنسان الذي يعيش هذه الحالة لا يأكل، ولا يتغذى جيداً، فتنهار قواه الجسدية، وتصيبه الأمراض الكثيرة والخطرة، ومنها مرض السرطان، وقد أكدت دراسات جادة انتشار الأورام السرطانية بين المصابين بالاكتئاب أكثر من غيرهم الذين يتمتعون بالتوازن والاستقرار النفسي».
كرب ما بعد الصدمة
ويحذّر أستاذ الطب النفسي الشهير من استمرار حالة الحزن المسيطرة على الإنسان لأكثر من شهر، لأنها تنتقل بالإنسان من حالة مزاجية مؤقتة نتيجة صدمة، إلى حالة يطلق عليها (كرب ما بعد الصدمة) وهي حالة نفسية وعصبية شديدة الخطر على حياة الإنسان، حيث تدخله في حالة اكتئاب شديد؛ قد تدفعه إلى التخلص من حياته، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يعيش - في ظل استمرار هذه الحالة - حياة صعبة، صحياً ونفسياً، وحالة من الغضب المكتوم الذي قد تدفعه إلى ارتكاب جرائم ضد آخرين.
لذلك يحث د. المهدي على اتّباع تعاليم القرآن بعدم المبالغة، في الحزن أو الفرح، ويرى أن فيها إعجازاً قرآنياً واضحاً، فكل أطباء النفس يحذّرون من الإفراط في الحزن، أو السعادة، من دون وجود ما يبرر ذلك، ويؤكد «لو فعلنا ذلك سوف نتجنب المخاطر الحقيقية لحالات الإفراط، في الحزن أو الفرح، لأنها تؤثر في التوازن النفسي للإنسان».
إلى ماذا يرشدنا القرآن الكريم في حالة التعرض لصدمات نفسية وعصبية؟
يبين د. عبد المنعم فؤاد، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر أن «القرآن الكريم يغرس في نفوسنا جميعاً ً«الطمأنينة والرضا»، بكل ما يقدّره الخالق سبحانه وتعالى لنا في هذه الدنيا، حيث يؤكد الحق سبحانه في العديد من الآيات القرآنية الكريمة أن كل شيء في هذه الحياة، خاضع لقضاء الله تعالى، وقدره، وواجب المؤمن الصادق أن يكون راضياً بما يقدّره الله، شاكراً لله في كل أحواله، صابراً عند البلاء.
ويطوف بنا عالم العقيدة الأزهر حول معنى قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الحديد: «مَا أصاب مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أن نَّبْرَأَهَا أن ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»، هذا النص القرآني يقودنا إلى ضرورة الرضا والتسليم بكل ما يقدّره الله، كما يقودنا إلى عدم المبالغة في مشاعر الحزن، أو الفرح، فالمسلم الحق متوازن نفسياً، يتسلح بتعاليم دينه ليواجه كل الظروف والمواقف، شخصيته متزنة يعرف كيف يتعامل مع الأقدار بما يناسبها من حكمة، وصبر، وتعلّم، واتّعاظ. فكل ما يحدث للإنسان في حياته، من خير أو شر، مسجل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهذا التسجيل كائن من قبل أن يخلقنا الله، ومن قبل أن تحدث لنا هذه المصائب. التي قد تزعجنا، أو تؤثر فينا. فالآية الكريمة صريحة في بيان أن ما يقع في الأرض، وفي الأنفس من مصائب، وغيرها من مسرّات، مكتوب ومسجل عند الله تعالى، قبل خلق الأرض والأنفس. وخصّ سبحانه المصائب بالذكر، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطراباً شديداً، وكثيراً ما يكون إحساسه بها، وإدراكه لأثرها، أشدّ من إحساسه وإدراكه للمسرّات».
وشأن المسلم في كل الأحوال أن يردّد قوله تعالى: «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».
كيف نهوّن المصائب التي نتعرض لها؟
يقول د. محمود الصاوي، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر «القرآن الكريم أرشدنا إلى الأسلوب الصحيح لمواجهة ما يحدث لنا في هذه الحياة، وأمرنا بالصبر ومواجهة، أقدار الله بالرضا، وكل من يفعل ذلك لن يجزع لمصيبة، ولن تؤثر فيه حادثة أكثر مما ينبغي أن يكون التأثير، وهذا مقصود قول الحق سبحانه: «لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم»، فالإنسان لا ينبغي أن يحزن على ما أصابه من مصائب حزناً يؤدي به إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره، كما لا ينبغي أن يفرح بما أعطاه الله، أو قدّر له سبحانه وتعالى من نِعم عظمى وكثيرة، فرحاً يؤدي به إلى الطغيان، وإلى عدم استعمال نِعم الله تعالى في ما خُلقت له، فإن من علم ذلك علماً مصحوباً بالتدبر والاتعاظ، هانت عليه المصائب، واطمأنت نفسه لما قضاه الله تعالى، وكان عند الشدائد صبوراً، وعند المسرات شكوراً».
يقول صاحب تفسير الكشاف عند تفسيره لهذه الآية الكريمة «إنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدّر مكتوب عند الله، قلّ أساكم على الفائت، وفرحكم على الآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطّن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله».
وما حكم من يعطيه الله نِعماً كثيرة فيفرح ويغترّ بها؟
يجيب د. الصاوي «هذا هو المختال الفخور الذي حذر الله من خصاله وأخلاقه السيئة، في قوله تعالى: «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» أي: الله عز وجل لا يحب أحداً من شأنه الاحتيال بما أتاه الله سبحانه، من نِعم من دون أن يشكره تعالى عليها، ومن شأنه أيضاً التفاخر والتباهي على الناس بما عنده من أموال وأولاد، وإنما يحب الله تعالى من كان من عباده متواضعاً، حليماً، شاكراً لخالقه عز وجل».
ويواصل التفسير «القرآن الكريم يغرس في قلب المؤمن كل معاني الثقة والرضا بقضاء الله في كل الأحوال، وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى، لأن ما سجّله الله في كتابه علينا قبل أن يخلقنا لا علم لنا به، وإنما علمه مردّه إليه وحده تعالى، وهو سبحانه لا يحاسبنا على ما نجهله، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به، أو نهانا عنه، عن طريق رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكما سجّل سبحانه أحوالنا قبل أن يخلقنا، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها، وبيّن لنا في كثير من آياته، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعمالنا».
أهمية الرضا بقضاء الله وقدره في استقرار حالة الإنسان النفسية والمعيشية
يوضح د. هاني عودة، مدير الجامع الأزهر «ثمرات الرضا بقضاء الله وقدره كثيرة ومتنوعة، فهي العامل الأساسي في استقرار حالة الإنسان النفسية، ولو تأملنا ما يفعله الإنسان، من حسنات أو سيئات، لوجدنا أن المعاصي كلّها أصلها من عدم الرضا، والطاعات كلّها أصلها من الرضا بقضاء الله وقدره».
ويضيف «الرضا عبادة قلبية ما أحوجنا إليها في عصرنا هذا، يذوق معها الإنسان طعم الإيمان وحلاوته، وهو أيضاً علامة على صحة الإيمان؛ ومصداق ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً»، والله عز وجل وعلا، بنى إرادته على علم وحكمة وعفو ورحمة، فليس هناك أي أمر بلا ترتيب، أو معرفة للعواقب، أو تقدير للنتائج، وكل ذلك في غاية الرحمة واللطف بالعباد، حتى ولو كان الأمر في الظاهر، أو الواقع على خلاف ذلك، كالمرض مثلاً يكرهه الإنسان ولا يحبه، وقد يكون فيه غاية اللطف والخير وعليه ثواب عظيم في الآخرة، وقد يغفر له بسببه من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه إلا الله، ولو عرف فضله لتمنى أن يظل مريضاً طول عمره».
ويشدد مدير الجامع على أن الله أراد بالقضاء والقدر طمأنة الناس بأن مستقبلهم بيده لا بيد العباد، حتى لا تخضع الرقاب إلا إليه، ويُعلم الناس أن العباد لا يمكنهم إنزال ضُر بأحد إلا إذا كان هذا الضُر قدراً مقضيَاً، فالرضا هو باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، كما أن الذي يرضى بقضاء الله وقدره، فإن الله يملأ قلبه سعادة، وسروراً، ورضاً، أما الذي يسخط ويعترض، وينظر إلى غيره، فإنه يعيش في شقاء لا يعلمه إلا الله.
اقرأ أيضاً:
- هل يؤدي الحزن إلى أمراض القلب والوفاة؟.. مع د. أحمد السكري
- اختبري نفسك.. إلى أي مدى يسيطر عليك الحزن؟