لا تفرّق في عطاياك ومشاعرك بين ذكر وأنثى.. آباء وأمهات ينشرون الغيرة والحقد بين أبنائهم
بعض الآباء والأمهات لا يستطيعون إخفاء مشاعر التمييز تجاه أولادهم فيهتمون أكثر بالذكور على حساب الإناث، كما لا يطبقون العدل والمساواة بينهم في العطايا والمنح فيحصل الذكور منهم على أضعاف ما تحصل عليه الإناث حتى في كميات الطعام ونوعيته، وهو الأمر الذي يخلق العداوة والكراهية والغيرة بين الأشقاء في هذه البيوت العربية.
هذه المشكلة -للأسف- لا تزال متأصلة في بعض النفوس منذ عصر الجاهلية حتى اليوم، وبالتأكيد لها تداعيات نفسية كثيرة قد تدفع بعض الإناث إلى الانتقام من أشقائهن الذكور الذين يميزهم الآباء والأمهات عليهن، وقد شاهدنا جرائم عنف في العديد من مجتمعات معاصرة بسبب ذلك..
وقد يمتد هذا التمييز إلى أن يكبر الأبناء ويرحل الآباء فيكتشفون المصيبة الأكبر بعد رحيلهم وهي تخصيص التركة كلها أو معظمها للذكور وحرمان الإناث منها.
فكيف ينظر علماء الدين لهذا السلوك المتوارث في العقلية الثقافية العربية؟ وما هي تداعياته الدينية والإنسانية والاجتماعية على العلاقات الأسرية في عالمنا العربي؟
أصل المشكلة.. نفسية
بداية، تؤكد الفقيهة الأزهرية د.سعاد صالح، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن المشكلة نفسية ومتأصلة في نفوس بعض العرب -للأسف- ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
وتقول: «رغم أن المرأة في عصرنا الحاضر قد حصلت على كثير من حقوقها، ونالت أعلى المناصب، وحققت إنجازات تنافس إنجازات الرجل وقد تتفوق عليه؛ إلا أن النظرة دائماً للمرأة في نفوس الكثيرين نظرة دونية، ومن هذه الثقافة تظل الأنثى دائماً في المرتبة الثانية بعد الذكر.
وهناك أسر لا تزال تهدر معظم حقوق الأنثى، سواء في التربية والتعامل داخل البيت، أو في مجالات الحياة المختلفة، فتحصل دائماً على حقوق أقل من الذكر، وتعامل دائماً بعنف مع أنها مخلوق رقيق المشاعر، تحتاج إلى تربية نفسية وأخلاقية وسلوكية خاصة».
وتضيف: «هذا الواقع يفرض على رجال الدعوة ووعاظ المساجد وعلى وسائل الإعلام المختلفة مواجهة هذه التجاوزات السلوكية من خلال توعية دينية وأسرية واجتماعية دائمة..
وأن تلعب الدراما العربية دوراً واضحاً وملموساً من أجل إعلاء شأن الأنثى وتوجيه الآباء والأمهات إلى ضرورة التسوية بين أولادهم وتوجيه مزيد من الرعاية للإناث، لأنهن بالفعل يحتجن إلى حماية أكثر من الذكور.
والحماية هنا لا تعني التعامل معهن بقسوة وعنف، وتقييد الحريات الشخصية دون وجود ما يستدعى ذلك، بل الرعاية الإنسانية تعني الترحيب بالأنثى وإكرامها طفلة وبنتا وزوجة وأمّاً، وتعني أيضاً عدم تمييز ذكر عليها حتى ولو كان يمتلك مواهب خاصة..
فهم في الآخر أبناؤنا وسوف يحاسبنا الله عن كل تقصير أو تمييز دون مقتضى شرعي لابن على الآخر سواء أكان المميز ذكراً أو أنثى».
العدل يغرس المودة والرحمة داخل الأسرة
وعن تداعيات السلوك العادل بين الأبناء، تؤكد الأستاذة الأزهرية أن العدل والتسوية بين الأبناء في المشاعر الإنسانية والمنح والعطايا المادية والعينية يعزز ما أراده الله بين الأشقاء من مودة ورحمة في أعلى درجاتها الإنسانية.
كما أن هذا العدل يعود بالنفع الكثير على الآباء والأمهات فيجنبهم رزيلة العقوق التي تنتج غالباً من الجحود والقسوة والحرمان من الحقوق، لذلك فالعدل والمساواة بين الذكور والإناث وفق ما أمر به شرع الله يعود بالنفع على الأسرة والمجتمع كله.
ومن هنا تطالب د.سعاد صالح كل أب وأم أن يعدلا بين أولادهما في العطايا عملاً بتوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ»، أن يدرك الآباء والأمهات جميعاً أن التفضيل بين الأبناء في الهبة والعطية بدون مسوغ معتبر شرعاً عند الفقهاء دائر بين الحرمة والكراهية.
فعلى الوالد أن يعدل بين أبنائه جميعهم ذكرهم وأنثاهم، ولا يفضل أحداً على أحد من أبنائه، إلا إذا وَجد مسوغاً للتفضيل كفقر مدقع لأحد الأبناء، أو مرض مزمن، أو حاجة ملحة، ولا يلتفت الوالد إلى غضب أبنائه الذكور إذا ساوى بينهم وبين أخواتهم البنات؛ لأن الواجب على المرء أن يلتمس رضا الله عز وجل ولو سخط الناس، وألا يتبع رضا الناس بسخط الله.
ثقافة عنصرية من أفعال الجاهلية
من جانبه، يؤكد العالم الأزهري د.عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد الأسبق لكلية الدراسات العليا بالأزهر، أن تفضيل الذكر على الأنثى في المجتمعات العربية «ثقافة عنصرية متوارثة» يجب أن تختفي من حياتنا، وهي من أفعال الجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها.
لذلك لا يجوز شرعاً لمسلم فعل ذلك، بل يجب العدل بين الأبناء والبنات في العطية، فذلك أدعى لرضا الله سبحانه أولاً، ثم أدعى لبر الأبناء -ذكوراً وإناثاً- بالوالد جميعاً وأرفع للشقاق بينهم، ففي الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»..
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء»، هكذا رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوك أب ميز ابناً على باقي إخوته، وقال لـ(بشير بن سعد) لما جاءه ليشهده على هبة وهبها لابنه النعمان: يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال نعم، فقال: أكلهم وهبت لهم مثل هذا؟ قال: لا، فقال: فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور».
ويوضح د.النجار هنا صفة العدل المطلوب من كل الأبوين تجاه أولادهما قائلاً: «لقد اختلف العلماء في صفة العدل بين الأولاد في العطية، فقال بعضهم العدل أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث، وقال آخرون يسوى بين الذكر والأنثى، وهذا القول الأخير هو المرجح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء».
متى يجوز التمييز بين الأبناء؟
لكن ألا يوجد من الأسباب ما يدفع الأب إلى تفضيل ابن على بنت؟
يجيب عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، د. النجار:
"بالتأكيد هناك مسوغات تعطي للأب حق تمييز ابن على باقي إخوته الذكور والإناث منها:
- كأن يكون الابن مريضاً أو من ذوى الاحتياجات الخاصة فيكون في حاجة إلى نفقة أكثر وإلى رعاية نفسية أكثر.
- أو أن يكون الابن صغيراً في مراحل التعليم ويحتاج إلى من ينفق عليه وتلبية متطلباته المادية والنفسية بينما أشقاؤه قد تجاوزوا هذه المرحلة.
- وهناك ظروف صحية وأسرية واقتصادية أخرى قد تمنح الأب حق تمييز ابن على ابن أو ابنة دون أن يكون قد ارتكب سلوكاً يجلب له غضب الله وعقابه.
لكن إذا لم يكن هناك مسوغ شرعي لما يريد الأب فعله من تفضيل، فلا يجوز له فعل ذلك ولو فعل كان آثماً شرعاً، كما ننصح الآباء والأمهات عدم البحث عن مسوغات وهمية لتمييز بعض الأبناء على بعض..
وعلى الجميع هنا العودة للعلماء لمعرفة المباح والمحظور في مثل هذه الأمور، ولا يحكموا أهواءهم الشخصية.
الحرمان من الميراث أو تقليله
وانطلاقاً من كل ما سبق، يؤكد د.النجار أن حرمان البنات من الإرث، كما يحدث في بعض البلدان العربية، يجلب لمن يقوم بذلك غضب الله وعقابه..
ويشرح «للأسف من مظاهر عقوق الآباء بأولادهم الإناث حرمانهن من الميراث، وهو سلوك حاربه الإسلام لما فيه من الظلم، وتعدي حدود الله تعالى، ومشابهة أهل الجاهلية الذين يمنعون الإناث من الميراث ويؤثرون به الذكور..
حيث يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً»، فقضية الميراث خطيرة، ولهذا تولّى الله سبحانه وتعالى -وحده- قسمة التركات لرفع النزاع، وأخبر أن تغيير هذا النظام الرباني لتوزيع التركة سبب من أسباب دخول النار والعياذ بالله..
قال تعالى عقب بيان المواريث: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ».
ويصف عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عادة منع البنات من الميراث، بحجة أن المال أو الأرض ستؤول إلى أزواجهن ونحو ذلك من الحجج التي يبطلون بها حقوق العباد، بـ(الفهم المغلوط والعرف الفاسد) الذي يتصادم مع نصوص الشرع
العدل.. حق للأبناء
خير الختام.. مع العالم الأزهري الكبير د.أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، حيث يؤكد أن العدل في التعامل مع الأبناء ذكوراً وإناثاً، من أبرز حقوقهم التي قررتها شريعة الإسلام لكي ينشأ الصغار تنشئة سوية بعيداً عن المشكلات النفسية والأحقاد التي قد تنجم من هذا التمييز.
ويضيف «الله سبحانه وتعالى أمر بالتسوية بين الأبناء في كل شيء ابتداء من النفقة عليهم، ورعايتهم صحياً وبدنياً واجتماعياً، وتوفير فرص التعلم والتثقيف لهم؛ حتى في الابتسامة والمشاعر والتعامل الإنساني من واجب الآباء والأمهات التسوية بين أبنائهم فيه».
ويوضح د.هاشم أن الإسلام بتقرير هذه المساواة يؤكد أنه دين عدل وإنصاف، فهم جميعاً أولادنا، ولا يوجد ما يبرر تمييز ولد على آخر، وهذه التسوية، كما يؤكد علماء النفس وخبراء التربية والاجتماع، وسيلة من وسائل الاستقرار النفسي للأولاد وللأسرة..
فهي تعمّق المحبة بين الأولاد بعضهم لبعض، وتضاعف من محبتهم للوالدين والبر بهما والإحسان إليهما، وينعكس أثر ذلك على علاقاتهم بالناس عامة بالمجتمع الكبير خارج نطاق الأسرة.
والتسوية المطلوبة شرعاً للأبناء على آبائهم تشمل التسوية بين الذكور والإناث حيث لا يجوز التفريق في المعاملة بينهما، لأن تفضيل الذكر وتمييزه على الأنثى سلوك مدان شرعاً وعرفاً، وجاءت تشريعات الإسلام لتحارب هذه الثقافة والنزعة الذكورية التي كانت سائدة في المجتمعات العربية قبل أن تشرق عليها شمس الإسلام..
وحثت الآباء والأمهات على إكرام الأنثى وتعليمها ورعايتها والإنفاق عليها، وجعلت لذلك أجراً مضاعفاً عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده -يعني الذكور- عليها أدخله الله الجنة»..
كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «من كانت له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة»، وفي رواية: «..فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة».
ويشدد عالم السنة النبوية الأزهري أن الكثير من التوجيهات النبوية الكريمة تحث الآباء على إكرام البنات ومنحهن كل حقوقهن وعدم تمييز الذكور عليهن..
ولو عملنا بها لأصبحت البنات مميزة على البنين ولاختفت بغير رجعة رذيلة تفضيل الذكور على الإناث في بعض مجتمعاتنا العربية، التي هي بالفعل مجتمعات ذكورية تُهدر فيها كثير من حقوق البنات، وتسيطر عليها عادات وتقاليد متوارثة تحرم النساء من كثير من حقوقهن.
ويقدم د.هاشم نصيحة لكل الآباء والأمهات فيقول «ينبغي أن يرضى المسلم بما قسمه الله له، وأن تكون سعادته بالأنثى على قدر سعادته بالذكر، فالأولاد رزق من الله، والإنسان لا يملك تحديد رزقه، ولا يعلم أين الخير، والله سبحانه وتعالى يقول:«آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً»..
وواقع الحياة يؤكد أن البنات هن أكثر براً بآبائهن من الذكور، فاجلبوا لأنفسكم مزيداً من البر والإحسان في حياتكم وبعد رحيلكم بالعدل بين أولادكم».
اقرأ أيضاً: حقوق الميراث.. لماذا تحول الإخوة إلى أعداء؟