21 مايو 2021

بعد محاولة انتحار.. فرنسية بذراع صناعية تلهم العالم

كاتبة صحافية

كاتبة صحافية

بعد محاولة انتحار.. فرنسية بذراع صناعية تلهم العالم

حاولت أن تنهي حياتها، وأراد القدر تلقينها درساً في حلاوة العيش ونعمة الحياة. وكانت نتيجة محاولة الانتحار الفاشلة بتر ثلاثة من أطرافها.. وها هي تتمتع بثمار العلم وتصبح أول فرنسية تستخدم ذراعاً صناعية إلكترونية تتحرك بشكل آلي. إن قصة معاناة بريسيلا ديبورا ثم عودتها إلى الحياة تستحق أن تروى، خصوصاً صمودها في وجه الألم ومثابرتها في سبيل الشفاء.

أصيبت بانهيار عصبي ورمت نفسها تحت عجلات المترو

بعد محاولة انتحار.. فرنسية بذراع صناعية تلهم العالم

حين تفكر بريسيلا بحركة ما فإن ذراعها الصناعية تنفذ الفكرة. من كان يصدق أن يصل العلماء إلى هذه الدرجة المتقدمة من التكنولوجيا الدقيقة التي تعيد الأمل لملايين الرجال والنساء والأطفال الذين فقدوا أطرافهم في حوادث طريق أو في انفجار لغم أو بسبب حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟

 لكن هذه الفرنسية لم تفقد ذراعها في حادث بل بسبب لحظة يأس يقترب من الكفر، سرعان ما تابت عنها. كانت راغبة في الموت غير أن الموت لم يرغب فيها. إنها العناية الإلهية وإرادة السماء. لقد رمت بنفسها تحت عجلات المترو في باريس وتم إنقاذها مقابل دفع ثمن غال جداً. كان ذلك قبل 15 عاماً، وقد اضطر الأطباء إلى بتر ساقيها الاثنتين وذراعها اليمنى. كانت مرمية، بعد الحادث، فوق سرير في مستشفى ومصلوبة بدون حركة مثل دودة الأرض، ليس هناك ما يمكن أن تركز عينيها عليه سوى سقف الغرفة. أما المستقبل فكان في علم الغيب. هل ستشفى وتعيش؟

أطلقت عليها الصحافة لقب:المرأة ذات الذراع الذهبية

بعد محاولة انتحار.. فرنسية بذراع صناعية تلهم العالم

بعد سنوات من تلك المحاولة اليائسة، ها هي المريضة تجلس أمام الصحافيين لتروي تجربتها، وتعرض عليهم ذراعها الجديدة باعتبارها أول فرنسية تتلقى هذا النوع المتقدم من الأطراف الصناعية الإلكترونية الذكية. سيدة شقراء بعينين ملونتين، أطلقت عليها الصحافة لقب: المرأة ذات الذراع الذهبية. بل هي ذات الإرادة الحديدية. ومن يراها بفستانها الأبيض وسترتها الجلدية السوداء لا يصدق أن هذه المخلوقة الهادئة المبتسمة والمتفائلة كانت تشتهي الموت في زمن مضى.

وطبعاً، فإن أصحاب هذا النوع من التجارب في الغرب لا يحتفظون بالتفاصيل لأنفسهم بل يسارعون إلى نشرها في كتاب.

بل أن دور النشر هي التي تلاحقهم للفوز بحكايتهم. فالقراء يعشقون هذا النوع من كتب السيرة والتجارب الفريدة الواقعية، وهي كتب تباع بآلاف النسخ وتعود على أصحابها بمبالغ توازي ثروة صغيرة. وهو ما فعلته بريسيلا حين نشرت، بمساعدة إحدى المحررات، كتاباً صدر حديثاً في باريس بعنوان «حياة مبتكرة». وفي الكتاب تحكي مراحل استعادتها لعافيتها ولوعيها وللمذاق الطيب للحياة. لكن أجمل فصول الكتاب هو ذاك الذي تشرح فيه كيف أن الإعاقة أجبرتها على «إعادة ابتكار نفسها»، بينما كان الانهيار العصبي قد أفقدها رشدها. لقد كان عليها أن تتعود على قضاء كل حاجاتها اليومية بما تبقى لها من أطرافها الأربعة، أي ذراعها اليسرى الوحيدة. والمدهش أنها تحكي عن الصعوبات وهي تبتسم ابتسامة واسعة.

خلال توقيع كتابها "Une Vie a inventer"

كانت بريسيلا، قبل الحادث، موظفة مرموقة تعمل في مجال الإنتاج التلفزيوني، تعيش حياة مليئة ومشوقة إنما في الظاهر فحسب. حياة مزدحمة بالعمل والمواعيد لا بقعة فراغ فيها. إن عملها مثير، ولها بيت جميل تعيش فيه مع زوجها وتنتظر أن ترزق بطفل. وهي تكتب «كنت أملك كل ما يمكنه أن يجعلني سعيدة لكنني لم أكن كذلك في الحقيقة». كانت تعاني من صدمة نفسية بسبب مرض شقيقها ذي السنوات التسع وموته. ولكي تنسى أحزانها، لم تتمهل وتأخذ وقتها في الحداد اللازم بل انطلقت تغرق نفسها بمزيد من العمل والانشغالات. ولما رزقها الله بابنة فإنها بدل أن تنسيها المأساة، راحت تركز كل مخاوفها وهواجسها حول الطفلة. صارت حياتها بؤرة للحزن.

قال لها الطبيب إنها تعاني من داء الكآبة، وهو الداء الذي يقود المصابين به إلى أفكار سوداوية ورغبة في التخلص من الحياة. تصورت إن الانتحار هو الحل الوحيد لمخاوفها وقلقها. قفزت تحت عجلات عربة المترو الداخلة إلى المحطة ولم تكن تعرف أنها تلقي بنفسها في سلسلة من آلام جسدية أعمق وأصعب. وبعد علاج جروحها وأوجاع البتر، كان من حظها أن تلتقي بأشخاص جددوا لها إيمانها بالحياة.

 ومن هؤلاء ممرضة لم تعاملها بشفقة بل طلبت منها أن تواجه واقعها الجديد بشجاعة. وتقول «ساعدني أسلوب تلك الممرضة في أن أتقبل الوضع الذي كنت فيه، ومن خلالها فهمت أنني فقدت أجزاء من جسمي لكنني ما زلت أملك منابع ثرية يمكن تقاسمها مع الآخرين على الرغم من إعاقتي».

في قسم أمراض العظام تعرفت بريسيلا على نساء أخريات تعرضن لبتر أطرافهن. وأدهشها أن أولئك المريضات كن يضحكن ويتبادلن النكات والحكايات المسلية. وقد قالت لها إحداهن «إن ساقاً ناقصة لن تمنعني من العيش». وفي تلك اللحظة أدركت أن من المخجل أن تتحجج بإعاقتها لكي تلعب دور الضحية. كان عليها أن تفصل بين فقدان ثلاثة من أطرافها وبين الاكتئاب النفسي. لحظة حاسمة في الوجود، ففي اليوم التالي سألت الطبيب عن إمكانية الحصول على أطراف صناعية.

بعد محاولة انتحار.. فرنسية بذراع صناعية تلهم العالم

الأطراف الأولى كانت تقليدية لتعويض الساقين. وقد كان عليها الانتظار حتى خريف 2018 لكي تدخل غرفة العمليات لتعويض ذراعها اليمنى بذراع إلكترونية. كانت تلك الخطوة سابقة أولى في فرنسا، إذ لم يسبق تجربة ذراع يجري تحريكها من خلال الدماغ ووفق آليات شديدة التعقيد.

كانت تقنية بالغة التطور توصل إليها العلماء في الولايات المتحدة الأميركية عام 2004. وهي التقنية التي باتت تعرف في اللغة الإنجليزية باسم Targeted Muscle Reinnervation، أي ما يمكن ترجمته إلى استهداف تعصيب العضلات.

تقوم تلك التقنية على إعادة ربط الأعصاب التي بقيت سليمة للطرف المبتور بالعضلات، وحين تفكر بريسيلا بحركة ما فإن الطرف الصناعي ينفذ ما فكرت فيه. وبعبارات أوضح فإنها تستطيع أن تفتح كفها وأن تقبضها، وأن تحرك مفصل الرسغ حركة دائرية، وأن تفرد الكوع أو تطويه. ومع استمرار التدريب والعلاج الطبيعي صارت الحركات البطيئة والمترددة أكثر سرعة وسلاسة، وهو أمر ساعد في تحسين الحياة اليومية للمريضة. إنها تستطيع مثلاً فتح الغطاء البلاستيكي لعبوة الطعام، بينما كانت في السابق تضطر للإمساك بالعبوة بيد ورفعها إلى فمها واستخدام أسنانها في تمزيق الغلاف.

كانت بريسيلا محظوظة لأنها امتلكت شروط الاستفادة من تلك التجربة العلاجية التي لم يحصل عليها أحد في فرنسا قبلها. لكنها كانت تحتاج إرادة حديدية لاحتمال جراحة دامت خمس ساعات، وحمل ذراع من الكربون تزن ثلاثة كيلوجرامات، والخضوع لتدريبات وعلاج طبيعي مكثف لمدة سنتين. هذا عدا عن كلفة العملية والتدريب والتي بلغت 160 ألف يورو، تحمل الضمان الصحي 30 ألفاً منها.

وبالنسبة لها فإن هناك حلاً لكل مشكلة. وقد جاء نشر الكتاب لكي يشكل مورداً يسد تكاليف العملية. وإلى جانب المنفعة المادية أرادت المؤلفة توجيه رسالة أمل فحواها أن الحياة أقوى من كل شيء، وأن الخسارات تبقى نسبية ولابد من المقاومة وعدم التخاذل. لقد أتاحت لها الإعاقة التعرف على أشخاص رائعين في تفاؤلهم، وعلى حكايات مدهشة لا تتوقف عند المرضى والمعاقين من ذوي الاحتياجات الخاصة بل تشمل الممرضات والأطباء أيضاً. إنهم شركاء في التجربة ويتلقون نصيبهم من القلق ومن الأمل والفرح.

لتمويل العملية والتضامن مع بريسيلا، انطلقت حملة على مواقع التواصل لتنظيم سباق للركض بين متطوعين وكانت حصيلته الإعلانية 20 ألف يورو، وهو سباق لم يجر لمرة واحدة بل صار سنوياً لدعم مرضى آخرين يحتاجون لهذا النوع من الأطراف الصناعية الذكية والمكلفة. وقد تقدمت مؤسسات كثيرة لدعم الحملة بالتبرعات.

لكن تبقى هناك جوانب معتمة في كل تجربة. من تلك الجوانب أن زوج بريسيلا تخلى عنها. لكن النصيب عوضها بزوج ثان طيب ومحب، رزقت منه بطفلة ثانية.

لقد تعارفا على حافة بركة للسباحة مخصصة لتدريبات العلاج الطبيعي. وكان هو بطلاً رياضياً سابقاً فقد ساقيه في حادث. وقد قاربت بينهما المحنة وتكفل الحب بصنع المعجزات. إنهما يمارسان التزحلق على الجليد، ويركبان الخيل، ورياضة الغوص البحري، وحتى التزلج على الأمواج. فالرياضة تحتل موقعاً أساسياً في حياتيهما، لاسيما التمارين المائية. وإلى جانب ذلك كان الزوج يدير ورشة للنجارة، بينما وجدت هي في الرسم موهبة كانت كامنة فيها، تمارسها بكثير من الزهو. ولعل كتابها الجميل هو رسالة أمل نحتاجها جميعاً في هذا الزمن الصعب الذي تفتك فيه الجائحة بالبشر في كل مكان.

 

مقالات ذات صلة