كذب المنجمون ولو صدقوا. وكذلك العرافون والساحرات وقارئات الفنجان والكف وضاربات الودع. لكن هناك مئات الآلاف ممن يعتاشون من بيع الأوهام للباحثين عن أمل أو نافذة للتفاؤل. وهناك من يحاول أن يرفع نفسه إلى مرتبة أعلى فيطلق على نفسه لقب «مُنجّم» أو «وسيط روحاني». لكن الدجل وادعاء معرفة الغيبيات ظاهرة لا تقتصر على الشعوب المتخلفة، فهذه عرافة أمريكية تنشر مذكراتها التي جاء فيها أنها عملت للرئيس السابق ترامب عملاً كان السبب في خسارته الانتخابات.
اسمها الكامل أماندا ييتس جارسيا، وهي تنشط في ولاية كاليفورنيا الأمريكية تحت اسم «أوراكل» أو وحي لوس أنجلوس. وقد نالت شهرة معتبرة بعد إعلانها أنها أطلقت تعويذة ضد الرئيس دونالد ترامب كانت السبب في خروجه من البيت الأبيض رغماً عنه. ولاستغلال هذه الشهرة الطارئة أصدرت العرافة أماندا كتاباً تروي فيه سيرتها التي قادتها إلى احتراف المهنة. وعنوان النسخة الفرنسية من الكتاب، بكل بساطة: «مذكرات ساحرة».
كتاب مذكرات ساحرة
كانت طفلة عندما تعلمت من والدتها أسرار قراءة البخت
حسب الصور المنشورة لها فإنها تبدو ذات قامة نحيلة ووجه متناسق تحيطه خصلات ذات لون بني فاتح. إنها تبتسم بلطف وتطلق نظراتها للبعيد كأنها تقتنص حلماً سعيداً. إن أماندا ليست مثل السحرة المشاغبين في قصص الأطفال، وهي لا تكشف عن عمرها بل تقول إنها تبلغ 300 عام، وتضيف «أستخدم تعويذة البريق لأظل لأبدو شابة». وقد جاء في مقال نشرته عنها صحيفة «الصنداي تايمز» أنها كانت لا تزال طفلة عندما تعلمت من والدتها، التي تشتغل بالسحر، فنون بطاقات الـ«تارو» لقراءة البخت. وتقول إن نداء السحر «غالباً ما يبدأ بالصدمة أو بالمرض».
نجت أماندا من الموت عند الولادة. وسرعان ما أدركت أن العالم الخارجي يعاديها ويقف ضدها. كانت ضحية للعنف الجنسي في سن الخامسة، الأمر الذي جعل منها طفلة متمردة تكافح لتعلم القراءة والكتابة. كان ذلك قبل أن تكتشف أنها تتمتع بقدرات عالية.
وهكذا حزمت البنت المراهقة أمرها وغادرت منزل العائلة وهي في ربيعها السادس عشر. عاشت حياة بوهيمية وبدأت بدراسة الفلسفة، وفي كثير من الأحيان كانت تعاني ضيق ذات اليد وتنقلت بين عدة أعمال صغيرة، فهي نادلة أو بائعة أو راقصة في النوادي الليلية. وفي لحظة من اللحظات قررت استخدام سلطاتها الداخلية لغرض وحيد هو «أن أسحر العالم من جديد» حسب ما نقرأه على موقعها الإلكتروني.
نقرأ في كتاب أماندا ما يلي: «بمجرد أن ندرك طبيعتنا الساحرة فإننا نستخدم سحرنا ليس للهروب إلى فضاء خرافي خارج حدود الواقع العادي ولكن لتوليد السحر داخل أنفسنا وصبّه على العالم». وتشرح في مذكراتها أنها امتهنت فتح الفال في عام 2010 من خلال قراءة أوراق الكوتشينة المسماة الـ «تارو»، وهي أوراق أكبر حجماً من شدّة لعب الورق العادية، تحمل صوراً من القرون الوسطى ولكل صورة مغزى مختلف عن الآخر. فهناك ما يدل على السعادة وحسن الطالع وهناك ما ينذر بمشكلات وخسارات.
وإلى جانب قراءة الطالع عبر الورق فإنها تكتب التعويذات وتمارس التنجيم و القراءات الماورائية وجلسات التطهير من الأرواح الخبيثة وغيرها من فنون مستقاة من الهند والشرق الأقصى. ولعل من المفيد أن يعرف القراء أن السحر هو أحد العلاجات البديلة والباطنية التي تزدهر في كاليفورنيا. وهناك، تحت أشعة الشمس الدافئة في لوس أنجلوس، حيث يقصد السياح أجمل الشواطئ والمنتجعات، نجد كثيرين وكثيرات يذهبون بناء على مواعيد مسبقة مع وسيط روحاني أو معالج نفساني وكأنهن يذهبن إلى دكاكين تقليم الأظافر وتنعيم كعوب الأقدام، وهو أمر تصفه أماندا جارسيا بالقول «يقدم لنا السحر ما نحتاجه للشفاء والارتقاء بأنفسنا واستجماع قوانا».
منذ قديم العصور، تناقلت البشرية حكايات السحرة وتحضير الأرواح والالتجاء إلى مختلف أسماء الآلهة، مثل آلهة الخصب والحب والماء. وكشف الإنسان عن ميل للتواصل مع الأرض والطبيعة، وكان مهموماً بالمرض والموت ويسعى لتصديق من يمتلكون قوة خارقة للشفاء أو لتسكين القلق. ومهما تنقلنا بين العصور والقارات، نجد أن حكايات الساحرات تداعب الخيال وتتسلل إلى قصص الأطفال. وسواء كانت الساحرة طيبة وفاتنة أو شريرة مزعجة، فإنها تنجح في اجتذاب جمهور القراء
ولعل سلسلة «هاري بوتر» هي الدليل العصري على ذلك، ففي أزمنة سابقة كانت الساحرات دميمات ومنبوذات مصيرهن الطرد من المجتمع والعزل والسجن، وأحياناً الحرق والشنق. وما زالت ممارسة السحر موضع مطاردة عنيفة في بعض البلدان. لكن الغريب أن كثيراً من النساء، في الوقت الحاضر، تلجأ إلى السحر كموقف نسوي، كما تقول أماندا.
في الواقع، تمثل النساء 9 من كل 10 استشارات تتلقاها في عيادتها في لوس أنجلوس، وهي تحاول أن تسبغ على مهنتها طابعاً نضالياً حيث تضيف «أن أكون ساحرة هو قبل كل شيء مشروع مناهض للرأسمالية. إنها تتعلق بالتمرد على الوضع الراهن والقمع، مع السعي لإنشاء أنظمة لتمكين المرأة». وفي مذكراتها يمكن أن نحصي 30 عبارة تندد بالنظام البطرياركي الغربي، أي الذكوري.
مقابلة قصيرة مع «فوكس نيوز» فتحت أمامها بوابة الشهرة
في سبتمبر «أيلول» 2017، بعد أن كان رئيساً للولايات المتحدة لما يقرب من عام، نظمت أماندا حفلاً لإلقاء تعويذة سلبية عليه بهدف منعه من التسبب في أي ضرر للبلد. وبما أن قناة «فوكس نيوز» مناصرة للرئيس السابق فإنها رصدت تحركات الساحرة وتمت دعوتها لشرح نهجها الغريب. كان ذلك في برنامج من برامج «التوك شو» يقدمه المذيع تاكر كارلسون. ومن تلك المقابلة راحت الأمور تتسارع، وتقول أماندا في مقابلة نشرها موقع «كرييتف إندبندنت»، «كانت جميع وسائل الإعلام تريد التحدث معي. يا إلهي، هذا جنون. لقد ظهرت مع كارلسون لمدة ثلاث دقائق وفجأة تغيرت حياتي كلها بسبب هذا البرنامج الحواري الفاشي».
جعل منها البرنامج ساحرة مشهورة. فمنذ ظهورها فيه باتت تحصي بين عملائها عدداً من المشاهير الذين تحرص على أن تحتفظ بسرية أسمائهم. بل إن دعوات منتظمة راحت تصلها من مركز «جيتي» ومتحف لوس أنجلوس للفن المعاصر ومن جامعة كاليفورنيا لحضور المؤتمرات أو ورش العمل، وهي بدورها تستضيف برامج تلفزيونية وإذاعية وتدير قناة «البودكاست» الخاصة بها. تبلغ تكلفة الجلسات في عيادة أماندا نحو 105 دولارات، ويمكن استشارتها عبر الهاتف أيضاً لمدة 30 دقيقة. كما أنها تتقاضى 280 دولاراً مقابل ساعة ونصف من «الكيمياء السماوية» و 720 دولاراً للحصول على تعويذة أو ما يشبه الحجاب. وخلال هذه الاجتماعات تقدم العرافة ممارسات مختلفة في غرابتها، مثل حمامات الصوت، وطقوس الطاقة وطرق القراءات الماورائية (التارو والبندول وعلم الأعداد والتنجيم).
خلال المقابلة مع قناة «فوكس نيوز»
تسخر أماندا من المسلسل الأمريكي القديم الذي نرى فيه ربة أسرة تمتلك قدرات خارقة تساعدها في إنجاز أعمالها البيتية، وتقول «لا يكفي تحريك أنفك حتى تصبح حياتك مختلفة تماماً». إنها تستخدم وسائط متعددة في منزلها الريفي الجميل في لوس أنجليس، وكل شيء صالح لإبهار الزبون، حتى ضفدع الحديقة الذي تزعم أنه الوسيط الذي يمارس طرد الأرواح الشريرة.
كما أنها تستخدم أحياناً البندول أو التبخير أو الأحجار أو الأطباق الغنائية أو حتى الشموع. تؤكد أن مهنتها شاقة جداً، فهي تستيقظ كل يوم بين الساعة السادسة والسابعة صباحاً لتكرس نفسها للأنشطة الإبداعية وخلوتها الشخصية، قبل أن تستقبل أول عملائها اعتباراً من الساعة الحادية عشرة، تقول «إذا كنت تعتقد أن كونك ساحراً يعني مجرد الجلوس في كل مكان والتكلم حول التعاويذ فأنت مخطئ.
إن نصف نشاطي يجري على إنستجرام حيث يتابعني 42 ألف شخص. وأنا أعطي دروساً في قراءة ورق البخت وعلم التنجيم وأشارك أنشطة المختلفة».
ورغم انتشار «كورونا» لم تتغير عاداتها كثيراً لأن ثلث مواعيدها يتم عبر الشاشة. مع ذلك، مع الحبس والأزمة الصحية، توضح أماندا أن هموم الزبائن اختلفت وغالباً ما تتم استشارتها حول الأسئلة المتعلقة بالنجاح المهني أو المال أو الحب. أما الحكمة التي استقتها من تجربتها مع الجائحة فهي أن البشر في حاجة لأن يكونوا أكثر محبة، وأن يتمتعوا بمزيد من المرح في الوقت الحاضر. ومع زيادة تعقيدات الحياة المعاصرة فإنها تتوقع أن يكون في المستقبل ساحرة لكل شخص.