بينما أنجزت المهندسة ريا العاني جناح العراق في إكسبو 2020 دبي، تنهمك زميلتها فاتن الصراف في تشييد استراحة سومرية في صحراء دبي. إنهن جيل مغامر من المعماريات اللواتي يصح أن نطلق عليهن تسمية «بنات زها حديد».
«كل الأسرة» تحدثت مع فاتن الصراف عن تفاصيل مشروعها الجريء:
قبل 4 سنوات، وبسكتة قلبية مفاجئة، فارقتنا المعمارية العراقية العالمية زها حديد. كانت في عز شهرتها وعطائها. وهي قد تركت وراءها مشاريع يجري افتتاحها في مدن كثيرة من العالم، وكأن تلك الصروح هي الإرث الذي تركته للبشرية تلك العبقرية الهندسية العربية.
هل كانت زها، المرأة الأولى التي تفوز بأعلى جائزة معمارية في العالم، فلتة الزمان التي لا تتكرر؟
إن في بغداد، وفي دول المهجر، مئات المهندسات اللواتي يستلهمن أسطورتها لكي يواصلن السير على نهج الابتكار والإبداع.
ومن هؤلاء فاتن عيسى الصراف، التي تقيم وتعمل منذ سنوات في الإمارات العربية المتحدة.
زرتها في بيتها في دبي وتعرفت إلى زوجها وابنتيها. إنها ليست امرأة عاملة في ميدان ظل لزمن طويل مقتصراً على الرجال، ولكنها أيضاً كاتبة ومصممة وربة منزل شاطرة. وقد عانت مثل زميلاتها المهندسات التشكيك في قدراتهن.
لهذا كان على كل واحدة أن تبذل مجهوداً مضاعفاً لإقناع أصحاب المشاريع والمؤسسات والشركات العالمية بأنها أهل للمسؤولية. وحين وصلت مهندسات عراقيات إلى بلاد الاغتراب وتقدمن للعمل، قوبلن بنظرات الاستغراب من رؤساء المؤسسات وشركات المقاولات، كيف لهم أن يصدّقوا أن هذه اللاجئة أو المهاجرة هي مهندسة شاركت في تشييد أبراج وسدود وجسور ضخمة؟
لفاتن عيسى الصراف شركتها للتصاميم المعمارية والتنفيذ في دبي. تبدو لمن يراها للوهلة الأولى شابة نشيطة ومستعدة للخدمة ومساعدة من يحتاج لمساعدتها. لكن من الصعب أن يتصور المرء أن هذه السيدة الصغيرة تتسلق مدرجات البناء وتشتغل في بناء أبراج تدوخ العين لمرآها.
التقيتها للمرة الأولى في أبوظبي، وأهدتني مجلداً مصوراً بعنوان «شجرة البمبر». كتاب تروي فيه جوانب من نشأتها والصعوبات التي واجهتها. إن سيرتها لم تكن مفروشة بالورد لكنها عرفت كيف تذلل العقبات بصفتين لاحظتهما فيها: الإصرار والتفاؤل.
ولدت في البصرة وأحبت دراسة الهندسة المعمارية. ولم يكن في جامعة البصرة قسم في ذلك التخصص، لكن البنت أقنعت أسرتها بأن تذهب بمفردها إلى العاصمة للدراسة. كانت إمكانات الأسرة محدودة، وفرع الهندسة المعمارية يحتاج مصاريف أكثر من بقية الفروع. وقد غاب الوالد قبل الأوان، وجلست والدتها على ماكينة الخياطة طوال خمس سنوات لكي تؤمن للبنت مصاريف الدراسة.
مثل مئات الآلاف من العراقيين سافرت فاتن الصراف إلى الخارج بحثاً عن فرصة عمل. وصلت إلى أوروبا وأستراليا والخليج وتركت وراءها في بغداد قصة حب غير مكتملة مع زميل لها.
وتشاء الأقدار أن يلتقيا بعد 8 سنوات في الإمارات، ويقررا الإسراع في الزواج لتعويض العمر الذي فات، تقول «قررنا أن نبدأ حياة مشتركة رغم كل المصاعب والعراقيل. وهكذا توجهنا في صباح جميل إلى سوق الذهب في دبي القديمة ودخلنا دكاناً صغيراً وطلبنا من صاحبه، وهو شاب سوري، أرخص خاتمين لديه. أخبرناه أنّ المبلغ الذي بحوزتنا لا يتعدّى 300 درهم، أي ما يعادل 80 دولاراً. وعرض علينا خاتمين مناسبين لكنّه طلب 100 دولار ثمناً لهما. اعتذرنا منه لعدم توفّر المبلغ وتركنا الخاتمَين على الطاولة. وبينما كنا نهمّ بالخروج نادى علينا، يبدو أنّه تعاطف معنا وقرر أن يقبل بالمبلغ الذي لدينا، ثم طلب لنا كوبين من الشاي وانشغل بحفر اسمَينا على الخاتمين. وفي اليوم التالي ذهبنا إلى مبنى محاكم دبي لعقد القران.
كان القاضي سودانياً وطلب مني أن أحدّد المقدّم والمؤخّر. قلتُ له لا أريد شيئاً فقال: لا يجوز يا ابنتي. سألتُه عن الحدّ الأدنى فقال: على الأقل 500 درهم. وافقت وتمّ عقد القران قبل عشرين عاماً».
بعد سنوات تحسنت الأحوال وازدهرت مشاريع فاتن الصراف. استبدلت بخاتمها الأول واحداً أجمل وأغلى ثمناً، لكنها تقول إنها ما زالت تعتزّ بالخاتم القديم لأنّه يذكّرها بذلك اليوم الذي بدأت فيه حياتها الزوجية من الصفر وعاشت أيّامها بحلوها ومرّها.
انجازات فاتن الصراف
شاركت فاتن الصراف، سنة 1994، في تشييد برج المأمون في بغداد، وكان في وقته أعلى مبنى في الشرق الأوسط. وهي تروي في مذكراتها جوانب من المواقف الخيالية التي رافقت تلك التجربة. كما تحتفظ بصور فوتوجرافية تذكارية من أعمالها في العراق ثم في الإمارات. ورأيت عندها صور المكاتب والبيوت التي تولت تصميمها وتأثيثها. وهي تحرص على حضور الأسواق العالمية للقماش والديكورات والرخام وكل ما يتعلق بمهنتها.
كما أخذتني إلى السوق العربي في دبي لأنه أحد المشاريع التي اشتغلت فيها. أما اليوم فإنها منهمكة باستكمال مشروعها الجديد الفريد من نوعه.
جاءت بالصانعين المهرة من الأهوار لتنفيذ مشروعها في دبي
لقد تلقت طلباً لبناء استراحة في صحراء دبي. إن من الشائع في دول الخليج أن يخرج الناس إلى الصحاري والبوادي للتمتع بجمال طبيعتها والسكون المختلف عن ضجيج المدن ودورة الحياة اليومية التقليدية.
خطرت في ذهن المهندسة فاتن فكرة أن يكون المبنى شبيهاً بالمضايف العربية المنتشرة في أهوار بلادها. إن المضيف بناء توصل إليه السومريون وأحفادهم باعتباره بيتاً مصنوعاً من القصب وجريد النخل وغير ذلك من المواد المتوافرة في البيئة. وطبعاً، لا يكفي أن تنبت الفكرة في رأس صاحبها لكي يقتنع بها الآخرون، كان عليها أن تدافع عن مضيفها وأن تقنع بها صاحب الطلب الذي كان يريد مجلساً يستخدمه في فترتي الشتاء والربيع في دبي. مضيف وحيد واقف في الصحراء لا يصنع مقاماً مريحاً بدون أجواء تحيط به وتحيل الإقامة فيه بهجة ومتعة للنظر. لذلك فإن المشروع يتضمن بحيرات صناعية وزراعة أشجار الغاف في محيط المكان، وهي الشجرة البرية التي تعتبر رمزاً تتميز به الإمارات.
ولتحقيق فكرتها استعانت المهندسة بمعارفها في بغداد، وذهب أحد الأصدقاء إلى أهوار الجبايش في الناصرية، والتقى العمال الذين يبنون المضايف التقليدية، وجرى التنسيق معهم لتنفيذ واحد في صحراء دبي. وبناءً على المقاييس التي حددتها صاحبة المشروع، تم حساب ما يحتاجونه من مواد، أي القصب والحبال والحصير وغيرها.
بعد ذلك شحنت تلك المواد براً بالحاويات من الأهوار إلى البصرة، ومنها بحراً إلى ميناء جبل علي. ولم تكن مراحل النقل يسيرة، تضيف الصراف «شيدنا الأساسات من الكونكريت ودعمناها بالحديد لأعمدة القصب بسبب طبيعة الأرض الرملية التي تختلف عن الأرض الطينية في الأهوار. ثم رتبنا الأمور اللوجستية لاستقدام فريق مؤلف من 9 عمال من الجبايش، أنجزوا بناء المضيف في الصحراء وعادوا إلى العراق. ونعمل حالياً على تكوين البحيرات وزرع الأشجار والتأثيث الداخلي للمضيف وإنارته».
يخطر على بالي سؤال عن كلفة استراحة مثل هذه، وتخبرني أنها لم تكن كثيرة، تكلفة البناء نفسه ليست كبيرة، لكن القسم الأكبر من المصاريف ذهب للشحن وترتيبات استقدام العمال وإقامتهم. وعلى ذكر العمال فإنها تشعر بالامتنان لأولئك الرجال الذين زادت أعمارهم على الخمسين، أكبرهم أبو سجاد الذي تجاوز السبعين، وكلهم من ذوي المهارة وممن يجيدون العمل من دون تضييع للوقت.
فقد كانوا يشتغلون من الفجر حتى مغيب الشمس وواجهوا عاصفة رملية قوية خلال العمل، لكن هيكل المضيف لم يتأثر، وكانت العاصفة بمثابة اختبار لمتانته.
لم تنس فاتن مسقط رأسها، وهي تزور البصرة بانتظام وتأخذ معها ما يعينها الله عليه من مساعدات لمن يحتاجها وللشباب الذين لم تتح لهم الفرصة التي أتيحت لها. ومن ذلك إنها وفرت طابعة خاصة لطباعة الكتب بطريقة «برايل» للمكفوفين.
إنها تعرف قيمة الكتاب وما توفره المطبوعات من معارف، فهي أيضاً كاتبة روائية، نشرت رواية بعنوان «كوخ العم نجم»، جاء في تقديمها «أن الكاتبة عرفت كيف تجعل من تجربة السجن والحرب وما يتبعها من الهجرة واللجوء مِهاداً للانخراط في عمل روائي جاد وتوظيفه لمصلحة وطنها».
وتدور الأحداث ما بين العراق وهولندا، وتربط ما بين موهبة الرسم لدى الشاب المهاجر الذي يعمل في غسل الصحون وبين تراث الرسام الهولندي الأشهر فان كوخ.