لا تزال منطقة تحت الربع، الواقعة بين حي الغورية من جهة ومنطقة باب الخلق من جهة أخرى، تجذب في كل صباح آلافاً من المصريين والسائحين على حد سواء، للاستمتاع بتلك الإطلالة المبهجة لحوانيت الخيامية العتيقة، وما تنتجه أنامل من تبقى منهم في تلك الصناعة العريقة، من مختلف أنواع المشغولات القماشية، المزخرفة بمختلف فنون الخط والزخارف العربية الأصيلة، والتي تحول كثير منها إلى قطع ديكور ساحرة تزين البيوت وشرفات المنازل، لمهنة لا تزال تقاوم موجات الحداثة، وتأبي أن تستسلم للغياب.
تتصدر حوانيت الخيامية واجهة سوق باب الخلق، الذي يعد أحد أشهر أسواق القاهرة التاريخية، فتضفي على السوق قيمة إضافية دفعت كثير من سكان المنطقة إلى إطلاق اسم «سوق الخيامية» عليه، تكريما لهؤلاء الفنانين العظماء الذين لا يزالون قابضين على جمر صناعتهم العتيقة، ويبتكرون فيها كل صباح ما يمنحها قبلة الحياة.
الخيامية واحدة من أقدم الحرف اليدوية
وينظر ما تبقى من الصناع المهرة إلى انفسهم باعتبارهم أحد حراس التراث، اذ تعد الخيامية واحدة من أقدم الحرف اليدوية التي اشتغل بها الإنسان على مر التاريخ، فقد كانت أحد أهم الأدوات التي استخدمت في العصور السحيقة لبناء المأوى، قبل أن تتحول مع مرور الزمان إلى فن له قواعده وأصوله، وحرفة لا تقبل بين أفرادها بغير الصناع الحاذقين المهرة، وهو الفن الذي بلغ أوج عظمته في مصر أثناء العصرين الفاطمي والمملوكي، عندما دخلت تلك الصناعة في تزيين البيوت وإسباغ مظاهر الأبهة والعظمة عليها.
عائلة صبرة
لا تزال عائلة صبرة تواصل عملها في تلك المهنة العتيقة، وتتوارثها جيلا بعد جيل، ويقول الحاج محمد صبرة، الذي يمثل الجيل الرابع في العائلة التي احترفت تلك الصناعة منذ زمان بعيد «نفخر بتاريخنا الممتد إلى أكثر من ثلاثة قرون في تلك الصناعة، منذ احترفها الجد الأكبر خلال فترة حكم المماليك لمصر.
والخيامية من المهن اليدوية الدقيقة التي تتطلب من الصانع أن يكون صاحب موهبة فنية بالأساس، ويجيد فنون الخط العربي، ويلم بمختلف مدارس الزخرفة العربية والإسلامية، فضلاً عن العديد من المواصفات الأخرى التي يتعين أن يتمتع بها الصانع، مثل الصبر وهدوء الأعصاب، باعتبارهما الأساس في تعلم مختلف فنون العمل اليدوي، إلى جانب القدرة على ألإحساس بالألوان والعمل على مزجها باحترافية فنان تشكيلي يعرف أساسيات فن تناغم الألوان».
من هو «شيخ الخيامية»؟
في حانوته العتيق، الذي يواجه البوابة الرئيسية للسوق، يستقبل الحاج حنفي إبراهيم، الملقب بـ«شيخ الخيامية»، الزوار كل صباح، بما تيسر من إنتاج ورشته، الذي يتراوح ما بين البسط والمفروشات، فضلاً عن بعض الابتكارات الأخرى التي تستخدم كقطع ديكور في المنازل، مثل الوسائد واللوحات القماشية الملونة.
فالرسم، حسبما يقول الحاج حنفي، يظل هو الأساس في تلك الصناعة، وجمال التصميم الذي سرعان ما ستتم حياكته على القماش باستخدام أدوات تقليدية بسيطة مثل الخيط والإبرة، ويضيف الحاج حنفي «تقوم صناعة الخيامية بالأساس على استخدام قماش التيل، وهو أحد أنواع الأقمشة التي تتميز بقوامها السميك، ويتعين قبل البدء في العمل رسم التصميم المطلوب لقطعه القماش، الذي يخضع بعد ذلك لعملية التخريم باستخدام بودرة مخصصة من أجل طبع الرسم على قماش التيل، حتى يتسنى للفنان القيام بعملية التطريز.
وكثير من الخيامية الماهرين يقومون بعمل أكثر من وحدة تصميم، قبل أن يشرعوا في خياطتها مع بعضها البعض بطريقة اللفقة، وهي طريقة تتطلب مهارة كبيرة حتى لا يظهر أثر الخياطة على السطح الخارجي للقماش، وهناك طريقة أخرى، بأن يقوم الخيامي بقص وحدات القماش وتطريزها مع بعضها البعض، قبل مرحلة تسمى التفسير، وهي عبارة عن حكاية خيوط أخرى فوق القماش وإبرازها حتى تظهر الملامح الأساسية للقطعة المراد صناعتها».
يطلق الحاج حنفي على مهنة الخيامية اسم فن الزخرفة بالقماش على القماش، ويقول «عظمة هذه المهنة أنها لا تستخدم أياً من الأدوات الحديثة، وتقوم فقط على الأدوات التقليدية التي استخدمها الصناع الأوائل، وهي الطريقة نفسها التي تستخدم في صناعة الوسائد وغيرها من قطع الديكور في المنازل، والتي قد يدخل فيها استخدام القطن والقطيفة والحرير، إلى جانب قماش التيل التقليدي، وبعض أنواع الجلود الرقيقة».
تاريخ مهنة الخيامية
استخدمت هذه المهنة في العهدين اليوناني والروماني لصناعة الخيام للجيوش العسكرية، وقد كانت تلك الخيام تتخذ شكلا بيضاويا وتكسى من الداخل بالحرير والفرو.
وقد تجلى الفنان الخيامي في تلك الفترة في صناعة الأشرطة والجامات مختلفة الأشكال والأحجام، وتزيينها بالزخارف المصنوعة بالخياطة، والأشكال الهندسية البسيطة بألوان مختلفة، قبل أن تنتقل تلك الفنون إلى مصر في العصر القبطي، الذي يعد واحداً من أهم العصور التي أبدع فيها الخيامية، وهو ما يتجلى في كثير من مقتنيات الكنائس المصرية العتيقة، لكن تلك الصناعة بلغت ذروة مجدها مع دخول الإسلام مصر، فتجلت مهارة الصناع، في صناعة الأعلام والبيارق التي كان يكتب عليها لفظ الجلالة، واسم الرسول الكريم، وأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، بالإضافة إلى الآيات القرآنية.
تطل مجموعة السلطان الغوري، على شارع الأزهر وسط القاهرة التاريخية، مثل لوحة فنية لا تخلو من بهاء قديم، إذ تجسد المجموعة بمعمارها الفريد عظمة فنون المعمارة المملوكية التي ازدهرت في مصر خلال القرن الخامس عشر، ولا تزال آثارها باقية حتى اليوم في العديد من الأبنية الفخمة والمساجد عتيقة البنيان.
*تصوير: أحمد شاكر