أضاءت مصر قناديلها، وخلعت على شوارعها ومبانيها كل أسباب البهجة، احتفالاً بقدوم الشهر الفضيل، في طقس سنوي لا تخطئه عين، يضرب بجذوره إلى نحو ألف عام مضت عندما دخل الفاطميون إليها عام 162 هجرياً، لتتحول في غضون سنوات قليلة إلى مركز روحي وسياسي وثقافي.
تبدو شوارع مصر في هذه الفترة من كل عام أقرب ما تكون إلى مهرجان مفتوح لكل ألوان الإبداع والبهجة، بدءاً من الزينات التي تملأ الشوارع بمختلف الألوان والأشكال، وليس انتهاء بمختلف أنواع الفوانيس التي تعد هي القاسم المشترك للاحتفال الكبير بقدوم الشهر الفضيل، فيما يتحول كثير من المخابز إلى صناعة الحلوى المرتبطة بشهر رمضان، والتي تضرب هي الأخرى بجذورها إلى العصر الفاطمي، حيث كانت تعد فيها تحت إشراف الدولة ورعايتها في ما كان يعرف بـ«دار الفطرة»، وقد كان فيها ما يلزم ذلك من السكر والعسل والرياحين والمكسرات، وكان يندب للعمل بها ما كان يطلق عليهم حينئذ طائفة الحلوائيين.
حلوى رمضان عبر الزمن
كانت حلوى رمضان، مثل الكنافة والقطائف وغيرها، تصنع في تلك الدار بكميات ضخمة، قبل أن تنقل في موكب يجوب شوارع المحروسة في احتفال كبير، ينتهي إلى القصر الفاطمي.
وتفنن الفاطميون في إعداد حلوى رمضان وتجميلها، فكانت تصنع على هيئة أشكال مجسمة، منها ما هو على شكل قصور ضخمة يصل وزن الواحد منها إلى سبعة عشر قنطاراً، وأخرى على شكل تماثيل مختلفة من الغزلان والسباع والفيلة والزراريف، ملبسة بالعنبر والصندل، وكذلك على شكل الأشجار المختلفة.
وكما كانت الحلوى تمثل جزءاً مهماً من موائد الفاطميين، كانت كذلك بالنسبة لعامة المصريين، لذلك عرفت مصر أنواعاً كثيرة منها، وبرعوا فى صناعتها، لاسيما تلك المعمولة بقصب السكر في الصعيد، إلى جانب غيرها من مختلف أنواع الحلوى فيما يعرف بـ«سوق الحلوائيين»، وهو المكان الذي كان المصريون يتدفقون عليه بأطفالهم في أوقات المناسبات والأعياد، خصوصا طوال شهر رمضان.
كما كانت الزلابية تصنع بنفس الطريقة التي لا يزال المصريون يتقنونها حتى اليوم، مع اختلافات بسيطة. ولم ينافس الزلابية على موائد المصريين في رمضان سوى القطائف، ما جعل كثيراً من أهل مصر يقبلون عليها ويتهادونها فيما بينهم طوال الشهر الكريم، إلى جانب الكنافة التي كانت على عدة أنواع، منها المملوحة والإخميمية وغيرها كثير.
الاحتفال بليالي الوقود الأربع
استبق المصريون الاحتفال بقدوم شهر رمضان المعظم في كل عام باحتفال آخر كان يسمى الاحتفال بليالي الوقود الأربع، وهي ليلة أول رجب وليلة نصفه، ثم ليلة أول شعبان وليلة نصفه، وقد سمي الاحتفال بهذا الاسم لكثرة ما كان يوقد فيه من الشموع والقناديل والمصابيح في المساجد والمشاهد والأضرحة.
وكانت تلك الاحتفالات بمثابة مقدمة للاحتفال الأكبر بشهر رمضان المعظم، حيث كان الناس آنذاك يكثرون الصيام في هذه الأيام، ويحيون لياليها بالأدعية والتراتيل كما يحيون ليالي رمضان، وفيها كان يقام احتفال رسمي يشبه إلى حد كبير احتفال المولد النبوي الشريف. وقد كان من مراسم الاحتفال في هذه الليالي أيضاً أن يصرف للجوامع ما يستخدم للوقود فيها، من الشمع والزيت وغيره، بالإضافة إلى العطور والبخور.
إقامة المآدب الخاصة والعامة
وكانت المآدب والأسمطة مظهراً من مظاهر الاحتفال بقدوم الشهر الفضيل، حيث كان الكرم يتجلى فيه، والدور لا تخلو في كل ليلة من لياليه من إقامة المآدب الخاصة والعامة. وقد كان «سماط رمضان» يقام في قاعة الذهب بالقصر الفاطمي، وقد كان هذا السماط، حسبما يقول المقريزي في خططه، من أعظم الأسمطة وأحسنها، إذ كان يمد من صدر القاعة إلى مقدار ثلثيها، ويعبأ بأصناف المأكولات والأطعمة الفاخرة.
وعلى مدار قرون، ظلت الفوانيس، واحدة من أبرز ملامح احتفال المصريين، بشهر رمضان، وكانت فيما مضي تضاء بالشموع، فيحملها الناس في طريقهم للصلاة بالجوامع، وكانت هناك فوانيس مخصصة للسحور، توضع على مآذن الجوامع لتعلم الناس وتنبههم بامتداد فترة السحور إلى حين إطفائها إيذاناً ببدء الصوم.
*تصوير: أحمد شاكر