لم يتوقف دور حصن الذيد عند أهميته التاريخية كأحد الشواهد الحاضرة على قصص صمود الآباء والأجداد في مواجهة الطامعين وحارس رزق أهل الواحة «واحة الذيد» مصدر الماء العذب وأشجار النخيل المثمرة العامرة إنما ليكون أحد الوجهات السياحية التي تعكس الثراء التراثي والثقافي لإمارة الشارقة بتحويله لمتحف يعكس واقع الحياة السياسية والاجتماعية في المنطقة.
أقدم المباني التاريخية في المنطقة
يعد الحصن من أقدم المباني التاريخية في المنطقة وشاهداً على ملامح تأسيس مدينة الذيد، يعود تاريخ بنائه للنصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي 1750م، تكمن أهميته كونه شاهداً على أهم الأحداث السياسية حيث شهد الاجتماعات السياسية بين شيوخ المنطقة ومندوبي الدول المجاورة والكثير من المعارك الحربية، كما كان استراحة للحاكم أثناء قدومه لرحلات الصيد والقنص أو المصيف، ومكاناً لاستقبال الزوار.
بني الحصن بشكله المربع بطول 32 متراً وعرض 26 متراً، على مدى أعوام طويلة، في عهد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم الشارقة آنذاك 1820م، بدأ البناء في البرج الحجري لفلج الذيد لتوفير الحماية لمصدر المياه بدايةً، تطور بعدها ليصبح مبنى بأربعة أسوار مضلعة تقع في زواياها أبراج دفاعية تضم غرفاً متعددة الاستعمالات يمر بها فلج الذيد قبل وصوله إلى منسوب الأراضي ليسقي شريعة الذيد الواقعة شمالي الفلج.
الكشف عن آثار السور المحيط بساحة الحصن
للحصن بابان، باب الصباح الواقع جهة الغرب وهو البوابة الرئيسية، والبوابة الشرقية، أما الأبراج فهي تتنوع بين الدائرية والمربعة، البرجان الدائريان هما البرج الحجري الأقدم والبرج الطيني، والمربعتان هما مربعة الشريعة نسبة إلى إطلالتها على الشريعة، ومربعة الشيخ التي يعتقد أن طابقها السفلي استعمل كغرفة للشيخ، كما وجدت غرفتان مجاورتان لمربعة الشريعة إحداهما يعتقد بأنها كانت مخزناً للتمور والأخرى غير معروفة الاستعمال، أما الغرفة الممتدة من مربعة الشريعة إلى مربعة الشيخ فقد استدل على وجودها عن طريق الكشف عن آثار جدار موازٍ للسور الغربي.
وأعيد بناء هذه الغرف بالإضافة إلى مربعة الشيخ التي اندثرت سابقاً، وخلال عملية الترميم التي شهدها الحصن تم الكشف عن آثار السور المحيط بساحة الحصن والدعامات التي تسنده من الداخل بالإضافة إلى ممشى الجنود الذي يعتقد بأنه الحلقة الرابطة بين الأبراج الأربعة.
في الجانب الغربي للساحة تكشف الصور القديمة إلى وجود شجرة سمر كبيرة كان الجنود يستعملونها لتعليق الغزلان المذبوحة وسلخها وطبخها. ومن خلال الحفريات تم الحصول على جذور هذه الشجرة وزراعة شجرة سمر جديدة محلها.
ترميم الحصن وتحويله إلى متحف يضم عدة قاعات
بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة ومن منطلق حرصه في الحفاظ على التراث الثقافي في الذيد والمنطقة الوسطى، تم ترميم الحصن وتحويله إلى متحف يضم عدة قاعات.
في قاعة الوثائق تعرض مجموعة من الوثائق المرتبطة بحصن الذيد بشكل خاص ومنطقة الذيد بشكل عام، تعود للأرشيفات القديمة مثل الأرشيف البريطاني، وكتابات محلية جاء فيها ذكر الذيد، تسرد حقائق جغرافية ووقائع سياسية وأحداث اجتماعية دارت في المنطقة.
في قاعة الأسلحة تعرض أنواع مختلفة من الأسلحة وجدت واستخدمت من قبل سكان المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، منها سهام حجرية تم استعمالها في فترات زمنية تمتد للألف الرابع قبل الميلاد، وسيوف وخناجر ولباس محاربين، ونماذج من الأسلحة النارية والذخائر مثل البنادق التي تم استيرادها من مصادر متعددة بأشكال وأحجام متنوعة.
غرفة الشيخ التي كانت بمثابة مقر حاكم الشارقة
أما غرفة الشيخ فتضم عدداً من الأغراض الشخصية التي كان يستخدمها الشيخ أثناء زيارته للذيد، فقد كان بمثابة مقر حاكم الشارقة أثناء إقامته هناك أو خلال تنقله في المنطقة الشرقية، أو قضائه فترة بجوار واحة الذيد.
وفي الليوان «مكان جلسة العائلة» كانت القهوة حاضرة كذلك هي الحال مع فواكه ومحاصيل الذيد أهمها التمر، لم يغفل القائمون على ترميم الحصن في عرض نماذج لأدوات المائدة وتقديم الطعام مثل الصحون النحاسية والخزفية المستوردة وأدوات مصنوعة من سعف النخيل منها السرود والمكبة.
مجسمات بالحجم الطبيعي للإبل ومعدات التحميل
لم تتوقف أهمية الذيد في كونها أرضاً غنية بمقومات الحياة، إنما ممر للقوافل التجارية فقد ضمت إحدى قاعات المتحف عدداً من الجداريات التي تصف دروب القوافل من وإلى المدينة إضافةً إلى عرض مرئي بأرضية القاعة لمسارات ومحطات التوقف على الطريق، كما يعرض أمام القاعة مجسمات بالحجم الطبيعي للإبل ومعدات التحميل وأصناف من البضائع التي كانت تحملها أثناء الرحلات، فقد لعب موقع الذيد الاستراتيجي دورًا مهماً في جعلها محطة لدروب القوافل وطرق التجارة التي كانت تعبر بالذيد من الشرق إلى الغرب أو من الشمال إلى الجنوب علاوةً على توفر المحاصيل والمياه فيها.
عرض مرئي ومجسمات دقيقة تصف مراحل عملية صنع دبس التمر
في ردهة المطبخ تم عرض نماذج لكافة الأدوات التي كانت تستخدم قديماً في عملية الطبخ وأنواع التوابل والحبوب والخضراوات، حيث تنوعت الأطعمة التي كان يتم تحضيرها في الحصن للعائلة والجنود، كما تميزت الموائد الخاصة بالمناسبات والاحتفالات التي كانت تحضر في المطبخ أو ساحة الحصن.
شكّل الحصن ملاذاً لأرواح السكان وأرزاقهم حيث يخزن المزارعون المواد الغذائية وما يجمعون من حبوب بعد فرزها وتخصيص جزء منها للزكاة في المربعة.
وفي غرفة المدبسة يقدم عرض مرئي ومجسمات دقيقة تصف مراحل عملية صنع دبس التمر، فيها يتم جمع التمور في أغلفة مصنوعة من سعف النخيل توضع فوق بعضها في المدبسة لتخزينها والحصول على دبس التمر في نفس الوقت، حيث يتجمع الدبس عبر القنوات السفلية إلى أن تصل للجرة الفخارية التي يتم تخزين الدبس فيها، كما كشفت عمليات الترميم عن حوض الفلج أو ما يطلق عليه «المكشف» حوض الاستحمام الخاص بسكان الحصن داخل أسواره، حيث يمكن للنساء الاستحمام داخل الحوض بخصوصية، كما كشفت عمليات الترميم عن وجود ثقبة أخرى داخل الحصن وثقبة ثالثة بجانب السور الجنوبي.
الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة يفتتح حصن الذيد
ولتكتمل أبعاد هذا المشروع الثقافي السياحي لم تتوقف عملية الترميم عند حدود الحصن إنما تعدته ليشمل المناطق المحيطة به لتشمل سوق العريش الذي تم بناؤه من الدعون والأخشاب وضم محالاً خصصت لأهالي الذيد يبيعون فيها منتجاتهم المحلية والمنزلية والتراثية، وإلى جانب السوق تم تجهيز مضمار مصغر تمر فيه الإبل في منظر يجسد مرور القوافل التي كانت الذيد محطة لها، وسط المزارع والشريعة تم ترميم مسجد الشريعة المبني على ربوة طينية منخفضة وسط النخيل وبجوار ساقية الفلج التي كان المصلون يتوضؤون منها، حيث كان المسجد في أصله مبنياً من الطوب الطيني والصاروج ورصفت أرضيته الداخلية بالصاروج وسقفه بجذوع النخيل المستندة إلى جدرانه إضافة إلى عمودين في الوسط.
كما للمسجد محراب مقوس تم الاستدلال عليه بالتقنيات الأثرية والصور القديمة، تم بناء مطعم البيت القديم وسط الشريعة بطابعه المعماري الفريد المستوحى من المباني القديمة في الذيد، والسوق الغربي الذي يقع على أطراف الساحة الغربية المقابلة للبوابة الرئيسية للحصن ضم محالاً تجارية اختيرت مجالات عملها بعناية لتلبية احتياجات الزوار.
يمكن اعتبار فلج الذيد «الشريعة» من أقدم الشواهد الأثرية على الحياة في مدينة الذيد وشريان الحياة فيها منذ القدم وإلى فترة زمنية قريبة، حيث ظل الناس يسقون منه واحة النخيل المشهورة في الذيد إلى أن تعرض هذا الفلج للجفاف والانهيار في بعض أجزائه إلى أن تم ترميمه.
*تصوير: السيد رمضان
اقرأ أيضًا: جولة في أعماق التاريخ داخل متحف الشيخ صقر بن محمد القاسمي