ليس كل الوزراء متساوين في الطبع والأسلوب، ولا كل الوزيرات. إن روزلين باشلو، التي شغلت عدة مناصب سياسية ووزارية في فرنسا، هي امرأة مختلفة تتمسك بحريتها ولا تخشى الانتقاد. لكنها تقف اليوم لتعترف في لحظة بوح نادرة عن معاناة ابنها وتعرضه للمضايقات في المدرسة لمجرد أنه نجل الوزيرة التي لا تتورع عن قول ما تؤمن به.
يمكن للوزيرة أن تطلق التصريحات المثيرة والمستفزة دون أن تلتفت لردود أفعال خصومها. لكن هناك من يدفع الثمن، وهو أعز شخص عندها، ابنها الذي عانى التنمر لأن والدته صاحبة «فم كبير» حسب المصطلح الفرنسي الذي يوصف به أولئك الذين لا يمارسون الرقابة على ما يتفوهون به.
روزلين باشلو، النائبة الفرنسية والوزيرة عدة مرات، هي واحدة من أصحاب الفم الكبير. وقد كانت ضيفة على برنامج تلفزيوني فرنسي شهير مؤخراً، وتطرقت إلى تأثير شهرتها على أفراد عائلتها والأشخاص المحيطين بها، لاسيما على ولدها الوحيد.
ففي حين كان العراق مذموماً، قبل سنوات طوال، ترأست روزلين جمعية الصداقة الفرنسية العراقية في البرلمان، وهي امرأة أقل ما يقال عنها أنها صريحة. لكنها صريحة بالصوت العالي، لا تخفي ما في قلبها ولا تخشى لومة لائم.
كان الرئيس الأسبق جاك شيراك أول من انتبه لمواهبها وجاء بها وزيرة للبيئة والتنمية المستدامة عام 2002. إنها تحمل شهادة الدكتوراه في الصيدلة لكن أحداً لم يشاهدها بالصدرية البيضاء بل بفساتين صارخة الألوان. وكانت ألوان فساتينها سبباً في انطلاق أول السهام ضدها. في زمن الرئيس ساركوزي صارت وزيرة للصحة والرياضة، وفي زمن الرئيس ماكرون وزيرة للثقافة. وكان من سوء حظها أن كل صالات العروض الفنية والثقافية أغلقت في عهدها بسبب انتشار وباء «كورونا».
النائبة الفرنسية روزلين باشلو ترتدي "الزهري لونها المفضل
ليست روزلين باشلو مجرد امرأة تضع أحمر شفاه فاقعاً وتميل للسترات الزاهية، إن لها حضورها في المشهد السياسي ولها رأيها في كل حدث. وبسبب صراحتها فإن مقدمي البرامج يتسابقون لاستضافتها ويتركون لها العنان في التصريحات. بل يحرضونها على المزيد من الصراحة. لكنها والحق يقال لبقة وذكية ولا تتورط في تصريحات منفرة، بل تتمتع بضحكة جميلة وروح خفيفة قادرة على تحويل أقسى المواقف إلى واحات للبسمة والتأمل.
في فترة من الفترات، عند خسارة حزبها اليميني الانتخابات ومجيء رئيس اشتراكي للحكم هو هولاند، أوشكت روزلين على اعتزال العمل السياسي وانتقلت إلى المشاركة في تقديم برنامج تلفزيوني يناقش قضايا المجتمع بجرأة وبأسلوب تهكمي.
بل أنها لم تتورع عن المشاركة في عرض للأزياء رغم أنها كانت قد قاربت السبعين ولم تعد ذات مقاييس تصلح لهذا الدور.
نعم أنا قوية، وقادرة على تجاوز التعليقات التي تنتقد مظهري وجسمي لكن هناك من المقربين مني من يتلقى تلك الانتقادات بكثير من الألم.
من بين كل السياسيين كانت هي الوجه الأشهر والأقوى شكيمة. صار لها معسكر لأنصارها وآخر لخصومها ولمن يضيقون بجرأتها. لذلك فإنها استسلمت لإغراء البوح وقالت في آخر برنامج ظهرت فيه «نعم أنا قوية، وقادرة على تجاوز التعليقات التي تنتقد مظهري وجسمي... لكن هناك من المقربين مني من يتلقى تلك الانتقادات بكثير من الألم».
النائبة الفرنسية روزلين باشلو
ثم ضربت الوزيرة السابقة مثلاً على ما تقول بولدها الذي تعرض للمضايقات والتنمر في المدرسة لمجرد أنه ابن روزلين.
لأول مرة، شوهدت المرأة القوية الضاحكة وهي متأثرة وعلى وشك البكاء، وروت حادثة لا تنساها. لقد تجاوز ابنها الخمسين من العمر حالياً، لكنها ما زالت تذكر يوم كان صبياً في الحادية عشرة من العمر وترك لها رسالة على وسادة نومها، كتب فيها «أمي... من الصعب أن يكون الواحد ابنك».
وقالت إنها تأثرت كثيراً بتلك الرسالة المؤلفة من سطر واحد وقررت أن تأخذ وقفة لتتأمل حياتها وتسائل نفسها «هل يحق لي أن أكون السبب في تعرض ابني الوحيد للسخرية في ساحة المدرسة وأن يسمع تعليقات هجومية من معلماته؟».
ألوان زاهية وقلب كبير
في تلك الفترة، كانت روزلين باشلو في مقتبل الثلاثين وقد انهمكت في العمل ضمن صفوف حزب «التجمع من أجل الجمهورية»، وقد صدمها أن تعرف أن ابنها قد تعرض للتقريع وللضرب من معلم معارض لحزبها. لكنها ليست من النوع الذي يسكت ويبتلع لسانه. فقد تقدمت بشكوى إلى وزارة التربية وطالبت بفصل المعلم من تلك المدرسة، لكنها لم تتوقف عن مساءلة نفسها ومراجعة مسيرتها السياسية. ففي تلك السنوات المبكرة لم يكن مصطلح التنمر قد ظهر في الخطاب الاجتماعي مثلما هو عليه اليوم. ولم يكن أولياء الأمور يشعرون بما يواجه أبناءهم وبناتهم من خبث طفولي في صفوف الدراسة وساحات المدارس.
لقد فكرت بالتوقف واعتزال العمل العام والعودة إلى ممارسة الصيدلة أو التدريس الجامعي. وتضيف أنها تحاورت كثيراً مع من تثق فيهم قبل اتخاذ أي قرار. وكان رأيهم أن عليها الاستمرار مع حماية نفسها وعائلتها.
لماذا تتصرف السيدة الوزيرة مثل إنسانة حرة متحررة من قيود المنصب؟
كان أول ما لفت الأنظار إليها أنها ترتدي بدلة ذات لون وردي صارخ، أي «بمبي» على حد قول سعاد حسني. وقد ارتأى كثيرون أن ذلك اللون نشاز بالنسبة لمن كانت في سنها. ثم إنها تتكلم بصوت جهوري عال وتضحك دون أن تضع كفها على فمها لتخفي أسنانها الكبيرة.
هل يعيبها أنها صادقة مع نفسها؟ هل يشين المرأة أن ترتدي بدلة زهرية اللون تعبيراً عن المزاج الرائق؟
يوم شاركت مع زميلات لها في برنامج تلفزيوني فإنها كانت ذرة الملح التي منحت البرنامج مذاقاً. وهي قد وافقت على المشاركة في برنامج آخر يساعد النساء على اختيار ثيابهن وعلى القيافة المناسبة لكل واحدة من المناسبات، هذا ضمن مبلغ مالي محدد وفترة قصيرة للتجول في السوق.
أخذوا على الوزيرة أنها تحولت إلى عارضة أزياء، لكن الحقيقة أن البرنامج كان مرصوداً الدعم لجمعية تعتني بمرضى «الزهايمر». كانت العائلات تتخلص من المسنين المصلبين بالخرف بإيداعهم في بيوت الرعاية، وهناك يتركون مثل كائنات انتهت صلاحيتها ولم تعد تصلح سوى لانتظار الموت. لكن وزيرة الثقافة رفضت ذلك الواقع ودعت المطربين للغناء والمسرحيين لتقديم عروضهم في دور العجزة، أمام أولئك المرضى المنقطعين عن العالم.
النائبة الفرنسية روزلين باشلو مع ابنها بيير باشلو
وبيير باشلو، ابنها الذي كان ضحية في المدرسة، هو اليوم رجل ناضج له أسرة وطفل. سار على خطى أمه، فقد كبر وتخرج في الجامعة وصار مستشاراً لوالدته في المجلس النيابي وكذلك عندما أصبحت وزيرة للبيئة والتنمية المستدامة بين عامي 2002 و2004، وهو اليوم موظف مكلف بمهمات خاصة في إدارة المعهد الوطني للوقاية والتوعية الصحية.
لكن باشلو لم تتوقف عن ارتداء الفساتين الزاهية ولا عن الكلام الصريح. وسبق أن كتبنا عنها في هذه المجلة أن توليها وزارة الثقافة كان أخطر مناصبها لأن الثقافة، في بلد مثل فرنسا، هي من الرافعات التاريخية للأمة.
ويوم ضربت الجائحة العالم كله وكان من نتائجها وقف العروض الفنية وإغلاق صالات السينما والمسرح وتعطل آلاف الفنانين الموسميين عن العمل، تمكنت وزيرة الثقافة من انتزاع ملياري يورو إضافية لدعم ميزانية وزارتها وتقديم العون للمسارح والمكتبات ودور العرض المتضررة.