من الجميل ألا تنسى الأمم مبدعيها، لكن الفرنسيين لا يتفضلون على الرسام أوجست رينوار بتنظيم معارض له، سنة بعد سنة، على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على رحيله.
فالحقيقة أن هذا الفنان المبدع هو المتفضل نظراً لأن الجمهور يحب أعماله، ويدفع ـ بكل سرور ـ ثمن تذاكر الدخول إلى معارضه، أو حضور المناسبات المتعلقة به.
إنه الفنان الانطباعي الذي عشق الطبيعة ورسمها كما لم يرسمها أحد من معاصريه من فنّاني المدرسة الانطباعية الذين تفوق عليهم.
أوجست رينوار (1841 ـ 1919)
هذا الشهر، كان الفرنسيون، والسياح الذين يقصدون فرنسا، على موعد مع الرسام أوجست رينوار (1841 ـ 1919) في جولة نظمتها بلدة «كرواسي» القريبة من باريس، فيها سار المشاركون على خطاه لتأمل واحداً من الأماكن الطبيعية الشهيرة التي رسمها؛ بل خلّدها بريشته.
كيف ألهمت بلدة «كرواسي» أوجست رينوار؟
لوحة للفنان رينوار
في عام 1869، حين كان الفنان في عز شبابه ودون الثلاثين من العمر، قام مع رفيقه وزميله الرسام كلود مونيه، بجولة على ظهر الخيل في المنطقة، وتوقفا عند مقهى عائم يدعى «لا غرونويير»، ويبدو من الاسم أن مياه تلك البقعة كانت ملأى بالضفادع.
لقد ذهبا إلى هناك لكي يرسما الجمال الباذخ لطبيعة تلك المنطقة، وكانت النتيجة مجموعة من اللوحات الزيتية التي بشّـرت بميلاد المدرسة الانطباعية في الرسم؛ أي ذلك الأسلوب من البقع واللطخات اللونية التي توحي وكأن الأشجار والحقول والبحيرات والطحالب العائمة على سطحها، هي مشاهد من أحلام رومانسية سعيدة يتلاعب فيها الضوء مع الظل.
لوحة للفنان رينوار مستوحاة من «لا غرونويير»
وفي حين كان مونيه مهتماً بسحر الطبيعة، فإن رينوار انصرف إلى تصوير المتنزهين الذين كانوا يستلقون على الجرف، متمتعين بأشعة الشمس في تلك الأيام من نهايات الصيف.
وقد بلغ من أهمية اللوحات التي كانت حصيلة الجولة أن المؤرخ البريطاني الشهير كنيث كلارك، كتب يقول، إن الانطباعية رأت النور في «لا غرونويير».
لذلك فإن الزوار يحبون التردد على تلك البقعة، مصحوبين بدليل يشرح لهم خفايا حياة رينوار، ومراحل تطور مسيرته الفنية، مع مرور بمتحف البلدة واسترخاء تحت الأشجار، على الضفاف التي سحرت الرسام من قبل.
لوحة للفنان رينوار رسمها عام 1892
ما سر هذا الاهتمام بالفنان على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على رحيله؟
سبق لمعرض «القصر الكبير» في باريس أن احتفى بالأعمال التي رسمها رينوار في القرن العشرين، فقد عاش بين قرنين، ولد قبل انتصاف القرن التاسع عشر وانطفأ بعد عقدين من القرن العشرين.
وكان الهدف من المعرض قياس تأثير الفنان في الأجيال التالية له، وكذلك اكتشاف جوانب غير معروفة من أعماله. لقد كان معرضاً يصعب نسيانه؛ إذ ينتاب الزائر لدى دخوله القاعة، إحساس حالم يجعله يغوص في ما يشبه السبات السعيد.
كيف لا يأخذه الحلم وهو يشاهد لوحة لفتيات ذوات وجوه مضيئة وجلد لؤلؤي، كل واحدة منهن مشغولة بما يعجبها، واحدة تعزف على البيانو، وأخرى تقرأ الشعر، وثالثة تلعب مع أطفالها، وهناك مَن تمشّط شعرها أو تغتسل في النهر، وكأن المشهد كله يصور أميرات لا نساء من العامة؟ «إن الحياة هنا تمر هادئة»، كما يقول الروائي الروسي أنطوان تشيكوف.
لوحة للفنان رينوار
إن بعض اللوحات التي رسمها رينوار في سنواته الأخيرة قبل وفاته، كانت من أجمل ما رسمه طوال حياته على الإطلاق
الواضح أن ريشة رينوار كانت ناعمة، سلسة، وأن الألوان زاهية دافئة، يغلب عليها اللونان الوردي والأحمر. أما انحناءات أجساد النساء فهي ضبابية وغير واضحة المعالم، ومن شأنها أن تقوي الإحساس بالحلم والتخيل. وسرعان ما يكتشف محبو رينوار أن ما يشغل باله ليس الحياة الداخلية للنماذج (الموديلات) التي يرسمها، حيث يعترف بأنه لا يستطيع التخلي عن النماذج الحقيقية ليرسم لوحاته، ويكفيه أن يشاهد «الموديل» أمامه، ولو للحظات، ليبدع في الرسم.
لوحة للفنان رينوار رسمها عام 1886
يقول الرسام الفرنسي هنري ماتيس، أحد أبرز التشكيليين في القرن العشرين، عن لوحات رينوار: «إن بعض اللوحات التي رسمها الفنان في سنواته الأخيرة قبل وفاته، كانت من أجمل ما رسمه طوال حياته على الإطلاق، خصوصاً لوحة السابحات، فهي رائعة من روائعه».
ويمكن لمن يود تأمل تلك اللوحة أن يشاهدها في متحف «اورساي» في باريس؛ ذلك أنها تستحق المشاهدة فهي تعبر عن الجمال الأنثوي بكامل تجلياته.
أبدع أيضاً في رسم اللوحات الانطباعية
لكن رينوار لم يبدع في رسم أجساد النساء الفاتنات المتخفّفات من ثيابهن، فحسب؛ بل أبدع أيضاً في رسم اللوحات الانطباعية، مع انتقاله من مسقط رأسه في ليموج إلى باريس.
وكانت أولى لوحاته عبارة عن امرأة جميلة ترتدي الزي الجزائري. لكن النقاد، وبالأحرى أصحاب صالات العرض، لم يتقبلوا مثل تلك اللوحات، تماماً مثل زملائه أمثال بول سيزان الذي كان يميل إلى تصوير المشاهد الطبيعية، أو كلود مونيه الذي رسم «انطباع شمس مشرقة».
لكنهم جميعاً شكّلوا، في النهاية، الحركة الانطباعية كمذهب جديد للرسم الذي يقترب من الحقيقة دون أن يتطابق معها. وهو ما يعتبر ثورة فنية في عالم الرسم استقطبت معظم فناني أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
خفايا حياة رينوار، ومراحل تطور مسيرته الفنية
ولد رينوار أوائل عام 1841 في مدينة ليموج، وسط جنوبي فرنسا، ومنذ صغره ظهرت عليه أمارات حبه للرسم، فكان يساعد والده الخياط الفقير في زخرفة بعض الأواني وترميمها، قبل أن ينتقل إلى باريس مع بلوغه الثالثة عشرة من عمره.
كان شغوفاً بانتمائه إلى الانطباعيين، لكنه بدأ التحرر من الحركة الانطباعية بالتدريج. لقد سئم الخروج إلى الطبيعة للرسم في أحضانها ونقل إحساسه مباشرة إلى اللوحة، وشعر بأنه وصل إلى طريق مسدود. كان لابد له من أن يغير حياته وأسلوبه فانتقل إلى رسم الصور الشخصية (البورتريه). وكان حائراً قلقاً يتساءل باستمرار «هل خلق الرسم لتزيين الجدران؟».
بورتريه رسمه الفنان رينوار
رحلة رينوار إلى الجزائر
قرر رينوار السفر إلى بلدان أخرى ليشاهد بأم عينيه طبيعة مغايرة لطبيعة بلاده. شد الرحال إلى الجزائر عام 1881، وبدأ برسم لوحاته هناك، لا سيما الصور الشخصية للنساء الشعبيات.
لكنه وجد صعوبة في إيجاد «موديلات» يقبلن الوقوف أمامه لساعات لكي يرسمهن، خصوصاً أن التقاليد العربية لم تكن تسمح بذلك. ووجد الحل بالبحث عن نساء من أصول فرنسية، يطلب منهن ارتداء الزي الجزائري باعتبار أنهن من بنات البلد. ومن الجزائر انتقل إلى مدريد، ثم إلى إيطاليا لمشاهدة أعمال الفنان رافائيل.
وفي عام 1883 ذهب إلى إحدى جزر القنال الإنجليزية، ورسم هناك أكثر من 100 لوحة، وهو الذي يعشق الضوء والطبيعة.
لوحة لامرأة ترتدي الزي الجزائري للفنان رينوار
أصيب رينوار في نهاية حياته بالتهاب المفاصل، مما أثّر في إبداعه، إلى أن توفي في عام 1919. ومنذ رحيله تواصل فرنسا الاحتفال به في مناسبات مختلفة، مثل مئوية ولادته أو مئوية وفاته.
لوحات رينوار
ومن لوحاته الخالدة لوحة «حفل راقص في طاحونة لاجاليت» التي رسمها في مقهى شعبي في حي مونمارتر، وهي تشبه الصورة الفوتوغرافية، حيث ينعكس فيها تمرد رينوار على رسم «البورتريه» العادي أو الرسوم الحية للأشخاص.
لوحة «حفل راقص في طاحونة لاجاليت»
هناك من يعتقد أن لوحات رينوار ملأى بالبسمة والابتهاج والسعادة، على الرغم من طفولته المعدمة، لكن الواضح هو ذلك التنوع العجيب في اللوحات عند وضع واحدة إلى جانب الأخرى.
إن لوحة «بركة البط» ولوحة «استراحة بعد السباحة» لا تنتميان إلى ريشة واحدة، وهو قد أنهى تلك اللوحة الأخيرة بصعوبة قبل عدة أشهر من رحيله، ليدفن إلى جانب زوجته آلين في مقبرة «إسوي».
لوحة «بركة البط»
أما عدد اللوحات التي يتم تداولها في المعارض الأخيرة فتبلغ 70 لوحة ما بين «البورتريه» الشخصي والجماعي، وكذلك المناظر التي استوحاها من الطبيعة، واللوحات التي رسمها خارج فرنسا، خصوصاً في الجزائر. وهذه اللوحات هي من أواخر أعماله، وليست كل ما أبدعته ريشته التي تقطر جمالاً.