28 نوفمبر 2023

حين يدمج الخيال بالواقع.. كريستوفر نولان ولعبة الزمن داخل الزمن

ناقد ومؤرخ سينمائي

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

حين يدمج الخيال بالواقع.. كريستوفر نولان ولعبة الزمن داخل الزمن

يلعب الزمن في الأفلام أدواراً متعددة. هناك الزمن الذي يستغرقه الفيلم، ثم الزمن الذي تدور الأحداث فيه، والزمـن الذي يتم فيه تحديد طول اللقطة، إلى جانـب الزمن الذي تدور الحكاية فيه أساساً (حقب تاريخية مختلفة)، ثم هنــاك الزمن، حسب طريقة المخرج كريستوفر نولان.

المخرج كريستوفر نولان
المخرج كريستوفر نولان

بعد العروض الناجحة لفيلم كريستوفر نولان، «أوبنهايمر»، التي حصد عبرها ملياراً و214 ملون دولار، يتوجه الفيلم إلى سوق المنصّات، ويعاود الإطلال على المشاهدين، سواء الذين شاهدوا الفيلم في عروضه السينمائية، أو الذين كانوا ينتظرون عروضه المنزلية.

في الواقع هو فيلم يستحق النجاح، كما يستحق الانتظار، بل ويستحق المشاهدة مرّة ثانية. بل ربما هذه المشاهدة الثانية ضرورية على أساس أن الأولى كانت للمعرفة، والثانية للتأمل والتعمّق.

لكن على نجاحه، هناك العديدون من الذين خرجوا من العرض متذمّرين من ساعات ثلاث قضوها متابعين حكاية بدت لهم خاصّة ومتشابكة. بعضهم كانوا يتوقعون فيلماً تشويقياً على الأرجح، لكن الآخرين كانوا يدركون أن الفيلم إنما يسرد حكاية من نوع السيرة الشخصية بطلها طوّر الذرّة،وحوّلها إلى سلاح، وبهذا السلاح تم قصف مدينتين يابانيّتين.

معظم الكتابات التي تبرّع بها المشاهدون الذيم لم يعجبهم الفيلم كثيراً، كانت تدور حول الانتقال الزمني بين فترتين مختلفتين في استعادات مشهدية. أحدهم كتب على Metacritic أن الفيلم أربكه، واقترح لو أن المخرج سرد الفيلم كأحداث متسلسلة في زمن واقعي.

حين يدمج الخيال بالواقع.. كريستوفر نولان ولعبة الزمن داخل الزمن

فيلم «أوبنهايمر».. أبيض- أسود بالألوان

لكن الحقيقة أن الزمن بالنسبة لكريستوفر نولان، هو أغرب ما في المدارات الميتافيزيقية. هو حالة وجدانية تطرح التساؤلات عن أي زمن نعيش، وإذا كان هناك زمن آخر ندخله ونخرج منه من دون معرفة.

هذا اهتمام غريب، لكنه متوفر في أفلامه. وبالنسبة إلى فيلم «أوبنهايمر» كان عليه أن يأتي في سياق مشاهد فلاشباك، لأن الفيلم سيرة حياة لا تسمح بكثير من الخيال. لكن في أفلامه السابقة (أو معظمها)، طُرح الزمن على نحو أسئلة مُثارة تدعو للتمعن.

نجد موضوع الزمن، والزمن الموازي، موجوداً في أغلبية ما يحققه نولان من أفلام، إلا أن ما فات العديد من النقاد، شرقاً وغرباً- حقيقة أن «ميمنتو» موجود في هذا الفيلم عبر قنوات أخرى، أهمها استخدام الأبيض والأسود في مطارح، واللجوء إلى الألوان في مطارح أخرى. إذن، هي ليست عملية اللعب بالزمن أو الاهتمام بتجسيده من خلال مواضيع نولان فقط، بل هناك الانتقال بين الألوان لتأكيد مضمون أبعد من أن يكون زمنياً فقط.

في «ميمنتو» الذي يسرد فيه المخرج الأحداث مقلوبة، هناك اعتماد للأبيض والأسود لمشاهد مستقبلية، واستعانة بالألوان في المشاهد الاسترجاعية. على عكس المعهود في الأفلام التي تنتقل ما بين الأبيض والأسود ،فتخصصه للماضي، وبين الألوان الذي تسرد فيه أحداثاً حاضرة.

المنوال نفسه في «أوبنهايمر»: الحكاية الحاضرة ملوّنة. المستقبلية (مشاهد المحاكمات) بالأبيض والأسود. بما أن نولان لا يستطيع مباشرة الحديث هنا عن الزمن كفلسفة، أو كأي شيء آخر، نظراً لأن الفيلم هو بيوغرافي، وليس خيالياً، فإن استخدام النظامين معاً هو تعليقه الوحيد على الفترة الزمنية، مقسّماً إياها بين حاضر ومستقبل، كما كان حال الفيلم السابق الواقع بين الحاضر والماضي.

من فيلم «أرق»
من فيلم «أرق»

التعليق الشخصي حول الزمن ومتاهاته مجسّد في فيلم Insomnia («أرق»، 2003). هذه المرّة بطله (آل باتشينو)، وهو تحري وصل إلى ألاسكا للتحقيق في جريمة قتل مصطحباً معه أرقه. لا يستطيع النوم، وبذلك هو داخل في زمن متواصل. هنا أسس نولان لاحتمال أن يكون النوم هو زمن آخر يصاحبنا، ولذا تقع فيه (عبر أحلامه وكوابيسه) أحداث لا نفهمها. نحن هناك وهنا، في وقت واحد. التحري دورمر (باتشينو) لا يستطيع النوم، وهو بذلك سجين الحاضر (والفيلم ملوّن بأسره). كل شيء حوله يهبط، مداركه، حالته النفسية، جسده المنهك... ثم ها هو، خلال مطاردته المجرم الذي انتدب لكشفه، يُـصيب برصاصه زميله، ويقتله خطأ، ثم يحاول التستّـر على فعلته.

حين يدمج الخيال بالواقع.. كريستوفر نولان ولعبة الزمن داخل الزمن

ثلاثية باتمان الخاصّة

في كل من «استهلال» (2010)، و«بريستج» (2006) تلك الخيوط المتشابكة بين ما هو حالي وماضٍ ومستقبلي. بين عالمين نعيش أحدهما، ونعتقد أننا لا نعيش في الآخر.

مراجعة أفلام نولان السابقة، وهو ما أمضيت أيامي القليلة الماضية أفعله رغم مشاهدتي لها حين خروجها، تفيد بكيف، ولماذا مفهوم الزمن مهم عند نولان. إنه الألم الذي يعانيه باتشينو في «أرق»، والشغف الذي يعايشه كرستيان بايل، وهيو جاكمان، في محاولة كل منهما بزّ الآخر في صنع الحِيل، والأعجوبات في «برستيج»، ثم هو الإمعان في دخول ليوناردو ديكابريو الزمن الموازي لتحقيق مآربه في الزمن الحاضر.

بعد هذه الثلاثية، انتقل نولان للفضاء نفسه. «بين النجوم» خيال علمي مختلف، حول أرض تتآكل، وحث العلم على البحث عن مكان عيش فوق كوكب آخر. بذلك سيدخل فريق المركبة زمناً مختلفاً يتركهم حيارى بين ما هو محدد، وبين ما هو مطلق.

بعد ذلك صنع نولان أفضل ما تم إنجازه في عالم أفلام الكوميكس عبر ثلاثية باتمان وهي Batman Begins («باتمان يبدأ»، 2005) و The Dark Knight («الفارس المظلم»، 2008) وThe Dark Knight Rises («صعود الفارس المظلم»، 2012). وتطرح هذه الأفلام موضوع الزمن من خلال الحكاية، من دون كثير انتقال بين زمانين. وهناك ما يكفي من إيحاءات وإشارات حول الماضي والحاضر، وما هو حقيقي، وما هو خيالي، إنما من دون فرض هذه الجوانب على المشاهدين. تمرّ بسلاسة وعمق معاً، تزيّنها رغبة المخرج في توليف سريع آسر يبقي المُشاهد عند حافة الكرسي الذي يجلس عليه.

الوقت مهم عندما يعمد هذا المخرج للكتابة وللإخراج ولمراقبة فعل التوليف بعد التصوير. وليس من حيث رغبته في إنجاز العمل سريعاً، بل من حيث الطريقة التي يستولي فيه التوقيت على أحاسيس المُشاهد/ ويضعه في الزمن ذاته الذي تقع الأحداث فيه.

الساعة تدق كل ثانية/ في أي من أفلامه. التشويق يرتفع. الرحلة صوب الهاوية/ أو النجاة تزداد سرعة.

لا ننسى أن للفيلم (أي فيلم) أربعة أزمنة:

  1. زمن الحكاية في الفيلم، كتاريخ أحداث.
  2. زمن الحكاية في الفيلم كفترة تقع في جانبيه تلك الأحداث (في يوم أو يومين أو عبر سنوات).
  3. زمن اللقطة والمشهد من حيث توقيته ليخدم السياق.
  4. زمن الفترة التي يقضيها المُشاهد التي هي عدد الدقائق التي وضع فيها المخرج كل ما سبق.

ونولان يجيد توضيب هذه الأزمنة، بحيث لا يفلت منها أحدها، أو يقع دون مستوى الحسبان.

وليس نولان من السذاجة بحيث يفرض على كل فيلم يحققه موضوع الزمن على النحو الوارد في «استهلال»، أو«برستيج»، أو «مبدأي» (Tenet)، لكنه لا يتحاشى إخراج أفلام كبيرة الحجم كما الحال في «أوبنهايمر» بمعطياته الخاصّة. ثلاثيته عن باتمان كانت من هذا الحجم الكبير، كذلك الحال مع «دنكيرك» (2017) وكلها تنم عن موهبة، ومهارة، وامتلاك للكيفية التي يستطيع نولان توفير الجيد والترفيهي جنباً إلى جنب.

اقرأ أيضاً: Oppenheimer.. قصة العالم الذي عرف بـ«أب القنبلة النووية»

 

مقالات ذات صلة