سفيرة الجمعية الوطنية لـ"التصلّب المتعدد" منى الحربي.. محاربة تصارع المرض وتُلهم الآخرين
كانت الحياة تستكمل فصولها بهدوء، إلى أن بدأ مرض التصلّب المتعدد، بهجماته المتتالية، يؤرّق يومياتها.
بعد فترة من الإنكار، وعدم زيارة طبيب أعصاب، بدأت منى الحربي، سفيرة الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد، تتقبل نفسها كمريضة تصلّب عصبي متعدد.
انقلبت حياتها رأساً على عقب، ولكن آمنت بنفسها وبقدرتها على خوض التحدي، وتعايشت مع المرض وحوّلته إلى طاقة للنجاح، وترسيخ حضورها في عملها، وفي مجال التوعية بالمرض، وكانت أسرتها إلى جانبها في كل المفترقات.
فقد نجحت في الحدّ من تداعيات مرضها، وإلهام المصابين الآخرين بالمرض، آليات مواجهته.
قصة منى حربي ترويها لـ«كل الأسرة» بالكثير من الحب:
كيف تروين لنا فصول حكايتك مع مرض التصلب المتعدد؟
في البداية، لم أكن أعرف أيّ معلومة عن مرض التصلب المتعدد، ولم أسمع به. بدأت الأعراض عام 2012 عندما كنت حاملاً في الشهر السابع بطفلي الثاني، شعرت بتنميل في جميع أطرافي بدرجة مخيفة، وأنا أعمل في المطبخ. لم أكن أدرك أنها أعراض لمرضٍ ما، وظننت أنها «ديسك» بسبب العمل، والجهد، والحمل، أخذت قسطاً من الراحة، ولم أعط الأعراض أي أهمية، وظننت أنها ستزول بعد الولادة. تجاهلت الموضوع حتى حملت بالطفل الثالث عام 2014، وخلال الحمل، تلاشت الأعراض، ولكن كانت الصدمة بعد ولادتي بأيام قليلة، إذ فقدت القدرة على المشي، وأصابني إعياء شديد، وعجزت عن الحركة. كانت أمي ترافقني في هذه الأيام، وتحاول مساعدتي، ونظراً لحجمها الضئيل لم تستطع مساعدتي على النهوض، وكنت أنظر إلى عينيها وتتلاقى عيوننا وتدمع لكوننا لم نعرف سبب عدم قدرتي على الوقوف.
بالتأكيد عشتِ مواقف صعبة، وبالأخص أنك أم..
عشت مواقف لا أنساها. في بداية 2015، أذكر موقفاً صعباً، عندما ذهب الجميع وبقيت بمفردي في المنزل مع طفلين صغيرين، ومولودة جديدة. في منتصف الليل، كان أطفالي يبكون في الغرفة المجاورة، ولم أستطع النهوض، وكان والدهم غائباً، رميت نفسي من فوق الفراش، وبقيت أزحف على بطني بذراعيّ للوصول إليهم لتهدئتهم. هذا موقف لن أنساه أبداً.
ظلّ التنميل، والوخز في أطرافي مستمراً، ولكن بشكل أخَف، فبدأت بمراجعة أطباء العمود الفقري ظناً مني بوجود مشكلة في الفقرات، وقام الطبيب بعمل رنين مغناطيسي، وبعدها تغيّر كل شيء، اتصل بي للحضور، وعرض لي صور الرنين، وأشار إلى البقع البيضاء الكثيرة، وطلب مني مراجعة طبيب أعصاب مختص، وزوّدني بالتقارير، وبأقراص مدمجة تحتوي على الصور الخاصة بالرنين.
عدم التزامي بالعلاج في المرحلة الأولى أدى إلى تعرّضي لهجمات جديدة من المرض
وكيف كانت رحلة التشخيص؟
بعد تزويدي بالتقارير، خرجت من العيادة تائهة، و لم أكن، حتى لحظتها، أدرك أهمية كلام الطبيب، وضرورة مراجعة طبيب أعصاب.
وفي إحدى الجلسات العائلية، تحدثت عن الموقف مع أختي التي كانت تمارس مهنة الطب آنذاك، وطلبت مني مراجعة التقرير، وتغيّرت ملامحها عند اطّلاعها عليه، وأكّدت لي ضرورة الذهاب إلى طبيب أعصاب، وهنا بدأت رحلتي مع التشخيص، والذهاب من طبيب إلى آخر، ولأني لم أستوعب المرض، وآثاره، وطريقة التعامل معه، فلم أكن آخذ كلام الأطباء بجدية، ولم ألتزم بالعلاج، حتى تعرّضت لـ«هجمة» جديدة في عيني اليمنى، عندما كنت أستمتع مع أبنائي على شاطئ البحر في يونيو 2016، حينها، كان الدكتور أحمد شاتيلا، آخر طبيب أذهب إليه، واستمررت معه لليوم، حيث جعلني أدرك أهمية وجدية التصلب المتعدد. ومذاك، بدأت رحلتي مع الخوف من المرض والاكتئاب، وشهدت تغييرات جذرية في حياتي لتتناسب مع الأعراض المصاحبة للمرض.
وفي عام 2017، انخرطت في برنامج لمدة ستة أشهر، وتغيّرت حياتي تماماً، ووصلت إلى مرحلة التقبّل، وأصبحت مدرّب حياة مرخصاً لإسعاد غيري، ومساعدته على التغيير والتقبّل والتعايش مع الأمراض المزمنة.
ضمن فريق عمل الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد
مع مرحلة معرفتك بالمرض، كيف تغلّبت على التحديات بسبب المرض إلى أن أصبحت اليوم سفيرة للجمعية وللمرض؟
مررت بالعديد من التحدّيات، النفسية والعاطفية والجسدية، ولكن نجحت في استيعاب المرض، وتعلّم كيفية التعامل معه، والسيطرة عليه ذهنياً، بدلاً من أن يسيطر عليّ، عن طريق التوجه للقنوات الصحيحة للمساعدة، والأشخاص المؤهلين، والوعي بنوعية التصلب الذي أعانيه. وأيضاً، تغلبت على التحدّيات من خلال الاستماع لنصائح الأطباء، وتجارب الآخرين، وأصبحت اليوم أحد سفراء الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد، إضافة إلى كوني عضواً في اللجنة الاستشارية الاستراتيجية.
كيف تصفين لنا يومياتك وكيفية تعاملك مع هجمات المرض؟
يومياتي مثل أي شخص آخر، تتوزع بين العمل، والروتين، والاهتمام بالأولاد، ولكني أحرص على ترك مساحة للراحة، والإنصات لجسدي جيداً، في حال شعرت بأي أعراض، أو إجهاد، وأعتمد كثيراً على الروزنامة، وترتيب الأولويات حتى لا أعرّض نفسي لأيّ توتر، أو over doing خلال اليوم.
منى الحربي مع أبنائها
ماذا تحدثيننا عن أسرتك، وهل ثمة مواقف مؤثرة عايشتها مع أبنائك؟
كوني أمّا لولدين وبنت، ما بين 8 و12 عاماً، أحاول دائماً أن تكون لنا مساحة خاصة خلال اليوم تتخللها الأحاديث الودية. أحرص على إقامة حديث دافئ، وتوفير وقت خاص مع كل منهم على حدة، حتى أتعرّف إلى مشاعرهم وأفكارهم، وما يدور في أذهانهم، أو ما يتخلل يومياتهم.
عندما شخّصت بالمرض، كان أطفالي أصغر سناً، ولم يعوا، فعلياً، ماهية التصلب، وما يعني أن أمهم لديها أسلوب حياة مختلف، وأولويات مختلفة. ولحسن الحظ أنهم كانوا صغاراً، حيث إنّني واكبتهم، ونشأوا على أن التصلب شيء عادي، وموجود، ويمكننا التعامل والتعايش معه. وأصبحوا اليوم يدركون أغلب الأعراض التي تحيط بالمرض، وهم يدركون أبعاد نشأتهم مع أمّ متصلبة، ويعرفون الملابسات، بحيث عندما نذهب للمشي، أو اللعب لساعات، أو عند الذهاب للشاطئ في أجواء الصيف الحارة، يعرفون أنّني لن أستطيع إنجاز كل الأنشطة معهم، والجميل أيضاً أنهم لا يميزوني على أنني أقلّ منهم، ولا يرون أني أقلّ في التفاعل من أمهّات أصدقائهم، وهناك الكثير من المواقف التي تجمعنا مع التصلب.
وعندما أصبت بآخر هجمة عام 2019 في أطرافي، مكثت في المستشفى لمدة خمسة أيام٫ وكانوا يزورونني صباح كل يوم، ويقومون بعمل «مساج» لرجليّ، ويضحكون عندما لا أشعر بملمس أيديهم على قدميّ. وعندما غادرت المستشفى، أصروا على أن أرافقهم إلى «المول»، وكانوا يتشاجرون فيما بينهم والتسابق حول من يدفعني بالكرسي المتحرك أسرع، مع الكثير من المواقف الطريفة.
هل أثر المرض في تحقيق أحلامك وممارسة حياتك بشكل طبيعي؟
لا أرى أن المرض أثر في أحلامي أو طموحاتي، وبالأخص أنني، وبعد التشخيص، أنجزت الكثير منها، وأصبحت أدير بعض الأعمال التجارية، وحصلت على منصب في مكان عملي، وأكملت دراسة الماجستير، وتخرجت بتقدير امتياز، وأمارس المسؤوليات الاجتماعية من خلال أنشطتي على التواصل الاجتماعي، في التوعية عن التصلب المتعدد، وكتبت كتابين بالاشتراك مع مؤلفين آخرين بعنوان «نساء ملهمات»، و«جرعتك من التحفيز»، وشاركت في سرد قصص أكثر عن تجاربي مع التصلب، وكيفية تخطي تحديات الحياة مع الظروف الصعبة، أو الأمراض المزمنة. كما حصلت على رخصة مدرب معتمد، ولديّ سلسلة بودكاست بالتعاون مع أكبر الشركات العالمية، وساعدت في تأسيس الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد، وقدمت الكثير من المحاضرات التوعوية في مؤتمرات، محلية ودولية، وجميع هذه الإنجازات، أتت بعد التشخيص، وبعد تقبّلي لمرض التصلب. في الحقيقة، لا أستطيع أن أتصور حياتي كيف كانت ستبدو من دون التصلب المتعدد، وما زلت أسعى للمزيد من الطموحات.
ومن أكثر الإنجازات التي أفخر بها، هو إلهام الآخرين التحلي بالصبر، والأمل، والإيمان، وأن كل شيء مقدّر لنا، وسيأتي لنا بالخير طالما نؤمن بأن الله معنا، ويسمعنا.
كسفيرة للجمعية وملهمة للكثير من المصابين، ما الأهداف التي تركّزين عليها وتعتبرينها تصبّ في تحسين جودة حياة المصاب؟
أرى أن من أهم الأشياء التي تحسّن من جودة حياة المريض هو الاهتمام الداخلي بالنفس، أي يجب علينا أن نهتم بالأشياء التي تراودنا، وماهية الكلمات التي نقولها لأنفسنا، ونبحث عن دافع داخلي يعزز فينا الأمل، ويجعلنا نتمسك به قوياً، يليه الاهتمام بالصحة، والنظام الغذائي، والراحة، النفسية والجسدية.
والشيء الذي تعلمته بعد إصابتي بالتصلب المتعدد، هو أنّ الحياة تستمر، ودائماً متغيرة، ولا شيء يبقى كما هو. أقول لكل مريض ومصاب بمرض التصلب: عِش هذه اللحظة وراجع دائرة علاقاتك، وأعِد ترتيب أوراقك مع من حولك، ارسم لنفسك خطوطاً، ولا تدع أحداً يتجاوزها، ركز على نفسك أولاً وثانياً وثالثاً، ورابعاً.. وبعدها يأتي كل شيء.
أحد أنشطة الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد
كيف ترصدين دور الجمعية الوطنية للتصلب المتعدد، وما هي أبرز المحاور التي ترتكز إليها؟
الدور الرئيسي للجمعية الوطنية للتصلب المتعدد هو تعزيز الوعي حول مرض التصلب المتعدد، وتقديم الدعم للأشخاص المصابين به، من خلال الخدمات والمبادرات التي تقدمها الجمعية، وتعزيز تواصل بين المرضى ببعضهم بعضاً، ومجتمع التصلب، وبين المرضى وعائلاتهم، ومقدمي الرعاية الطبية.
كما أن دور الجمعية يكمن في توفير القنوات الموثوقة للحصول على أهم المصادر والمعلومات التي تتعلق بمرض التصلب المتعدد.
أقول لمرضى التصلب: اهتموا بصحتكم النفسية والجسدية وعزّزوا جودة حياتكم وركّزوا على أنفسكم بالمرتبة الأولى
كسفيرة للمرض، ما أبرز النصائح التي توجهينها لمريض التصلب المتعدد لتقبّل ذاته وعدم الشعور بالضعف؟
أهم نصيحة أقدمها، وذكرتها سابقاً عبر حساباتي على منصات التواصل، هي التقبّل، ليس قبول المرض فقط، بل تقبّل تبعاته أيضاً، والتغييرات التي يشهدها الفرد بعد التشخيص به. أحث المرضى على القيام بتغييرات لحياتهم حتى إن كانت صعبة،،ونتذكر قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] ولذلك، حتى إن كان التغيير صعباً في البداية، لكنه ضروري لمواجهة التحديات الناجمة عن المرض.
اعتزلت محيطك لفترة.. ماذا تحدثنا منى حربي عن حياتها اليوم وعند النظر إلى أطفالها؟
أشعر، ولله الحمد، بكل الرضا، والمحبة، والسلام، والإيمان، في حياتي، وإن كنت تعلّمت درساً من إصابتي بهذا المرض، فالدرس هو التقرب إلى الله، والتركيز على العافية الذاتية.
عندما أرى أولادي، فإني أرى فيهم مستقبلاً مفعماً بالأمل، وأنا على يقين بأنهم يرون كل ما أفعله اليوم، وسيستقون منه دعامة للتطلع إليه مستقبلاً، والتعلم منه، وأخذه إلى مستوى آخر يجعلهم يحلّقون في الحياة نحو آفاق ما يرغبون.