قراءة في نتائج مهرجان "كان".. تيمات متشابهة طغت على جوائز "كان"
فريق عمل الفيلم الفائز بجائزة مهرجان «كان» - «أنورا»
«أتمنى لو كنت ذبابة على الحائط في غرفة لجنة التحكيم لكي استمع إلى ما دار الحديث عنه في جلساتها»، كتب ناقد فرنسي بعد ختام الدورة 77 من مهرجان «كان»، يوم أمس الأول، والتي أهدت فيه «أنورا» جائزتها الكبرى.
لكن ليس هناك ذباب، ولا أحد يستطيع أن يعرف ما دار في تلك الجلسة الأخيرة، وكيف. كل ما نعرفه أن «أنورا» (الذي لم ينل إعجاب نقاد فرنسيين كُثر) خرج من المنافسات الصعبة، وقد ربح الجولة.
المخرج شون بيكر
الحب مع غريب مناسب
«أنورا»، هو شيء من اللهو المبرمج ليكون نصف الطريق ما بين الفيلم الجماهيري والفيلم الفني. من ناحية لديه حبكة ترضي الأذواق الباحثة عن الترفيه، ومن ناحية أخرى فيه لمسات تسجل له في خانة الجمهور الباحث عن عمل مصنوع بالدراية الكافية. لا يحمل الفيلم قيمة فنية عالية، لكنها كانت كافية لدى لجنة التحكيم لتفضيله على سواه.
يحكي قصّة فتاة تعمل راقصة في النوادي الليلية، وتبيع الهوى لمن يدفع. في أحد الأيام يصطحبها ملياردير روسي إلى فيلّته الكبيرة، بعد ليلة ساخنة، وهناك يعرض عليها الزواج، وتوافق.
لكن «الزواجة دي مش ممكن تتم»، كما في الأفلام المصرية القديمة، وها هي عائلة الشاب الملياردير التي تعيش في روسيا، ترسل أربعة رجال لإقناع الفتاة بالتخلّي عن زوجها. السؤال هو هل ستوافق أم لا؟ بل كيف سترفض في الوقت الذي تسلل فيه الملياردير هارباً ممن يبحث عنه، وبعد أن شعرت بأنها تحبّه لذاته وشخصه، وليس لثرائه؟
كوميديا تحفل بمشاهد جنسية، تواكب الشخصية النسائية كما تؤديها ميكي ماديسون. وتلتحق بحكايات سابقة حققها المخرج شون بايكر للسينما، تدور حول فتيات الهوى، وما يخضنه من مشاكل عاطفية إذا ما وقعن في الحب فعلاً.
كوبولا يسلم الجائزة إلى جورج لوكاس
المخرجان.. كوبولا ولوكاس
الفوز حمل مفاجأة بلا ريب، لكن المفاجأة الأهم كانت أن الفيلم الأمريكي الآخر، «ميغالوبوليس» لفرنسيس فورد كوبولا، لم يرد اسمه مطلقاً بين الأفلام الفائزة، ولم يصعد المخرج العتيد كوبولا المنصّة إلا مرّة واحدة، لتسليم صديقه ورفيق دربه جورج لوكاس الجائزة التقديرية عن كل أعمال الأخير التي شملت بالطبع المسلسل الشهير «ستار وورز».
تغييب «ميغالوبوليس» يحتاج إلى وقفة. هو أفضل فيلم على أكثر من صعيد، متوّج بفانتازيا تتحدث عن شأن عام، وتنتقد الشغف بالمال الذي يحكم هذا العالم. فيلم لم يشبهه مثيل، ولن يتبعه مثيل، لكونه ينتمي كاملاً إلى إبداع وأفكار وحرفة المخرج كوبولا.
من دون أن نكون ذبابة على الحائط، يمكن التكهن بأن المجتمعين طرحوا الحديث عنه من زاوية أن بعضهم لم يفهمه، وبعضهم الآخر لم يحبّذه. الأغلب أن اللجنة اعتبرته ينتمي إلى مدرسة تفكير قديمة، وحالة فنية صعبة التعريف والقبول.
«أنورا» هو أول فيلم أمريكي يفوز بالسعفة منذ تسع سنوات. الفيلم السابق كان «شجرة الحياة» لترنس مالك. بعض من يرى أن مهرجان «كان» يحبّذ الأفلام الأمريكية، ما عليه سوى مراجعة المرّات القليلة، في السنوات الثلاثين الأخيرة التي خرج فيها فيلم أمريكي بالسعفة.
لجنة تحكيم مهرجان «كان»
الحلم والوهم
من ناحية ثانية، نجد، عند التمعّن بالنتائج، أن لجنة التحكيم التي قادتها المخرجة الأمريكية غريتا غرويغ، وكان من بين المشتركين فيها المخرجة اللبنانية نادين لبكي، أسدت جوائزها تبعاً للاحتفاء بقيم الكتابة القصصية، كما الحال مع «كل ما نتخيلة كضوء» (All We Imagine as Light) الجائزة الكبرى (الثانية في الأهمية) الذي حققته الهندية بايال كبدايا. دراما تدور في رحى مدينة مومباي الذي تقول عنها إحدى الشخصيات «البعض يصفها بأنها مدينة الأحلام، لكنها مدينة الأوهام. هناك شيفرة سرية: حتى لو كنت تعيش في مجاري المدينة، عليك ألا تغضب».
هذا فيلم نسائي البطولة حول قضية اجتماعية، نسائية الشخصيات والقضايا. لم يكن يتوقع له أحد الفوز بالجائزة التي منحت له، لكن بعد الفوز بها تساءل البعض عمّا إذا كانت السعفة الذهبية هي ما كان على هذا الفيلم الفوز بها عوض «أنورا».
فيلم المخرج الفرنسي جاك أوديار «إميلي بيريز»، الذي يحكي عن رئيس عصابة كاتريل، يودّ الاعتزال، وتحقيق حلمه بالتحوّل إلى أنثى، فاز بجائزتين. الأولى بينهما جائزة لجنة التحكيم والثانية لمجموعة بطلاته التي تضم سيليا غوميز، وزاو سالدانا، وكارلا صوفيا غازكون. هذا عوض منح ممثلة واحدة جائزة أفضل تمثيل نسائي، كما جرت العادة.
اللافت أن جائزة أفضل ممثل ذهبت لجيسي بليمونز عن دوره في فيلم «أنواع اللطف». هذا من حيث إن بطله يتعامل مع مسألة البحث عن هوية جنسية بدوره. بليمونز، الذي شوهد في فيلم مارتن سكورسيزي الأخير «قتلة فلاور مون» لاعباً شخصية المحقق الفيدرالي، ممتاز كممثل ويستحق. دوره هنا يتيح للمشاهدين التعرّف إليه عن كثب.
ما هو لافت أيضاً، أن هذه الأفلام الثلاثة، «أنورا» و«إميلي بيريز» و«أنواع اللطف» تدور حول الجنس كمحور ولو في نواحٍ مختلفة.
المخرج ميغويل غوميز
موقف سياسي
الأمر يختلف بالنسبة إلى فيلمين من تلك الفائزة، أولهما «الجولة العظيمة» للإسباني ميغويل غوميز، وهي جائزة أفضل مخرج، الذي يتحدّث عن عروس تبحث عن الرجل الذي هرب من حفل الزفاف من البلاد ويستغل الحبكة لاستعراض أوجه حياة في زمن غابر (1917) في جولة تكشف عن ثقافات آسيوية متعددة.
الثاني هو «بذرة التين المقدّسة» الذي خطف جائزة خاصّة، وتمتع مخرجه محمد رسولوف، بتصفيق حاد استمر نحو عشر دقائق، وذلك تبعاً لفيلم ينتقد الأحكام بحق المتظاهرين، وعنف الأمن الذي تصدّى لها، وتبعاً لتسلل المخرج هرباً من الحكم الأخير بسجنه لثماني سنوات لكونه يحقق أفلامه الانتقادية هذه من دون وجل.
من ناحية، هو فيلم سياسي مهم على صعيد ما يعرضه، ومن ناحية أخرى (ولساعتين من ساعاته الثلاث على الأقل) يعمد إلى الحوارات المكثّفة للكشف عن مواقف شخصياته.
هذه الجائزة تبدو إرضاء لمخرج يستحقها لموقفه، وكان يستحقها لأفلام سابقة له أفضل تنفيذاً من الفيلم الحالي، على صعيد فني. لكنها في الوقت ذاته إيماءة مهمّة لقضية لا يختلف عليها إثنان في الغرب، وهي انتقاد الوضع الماثل في الفيلم وفي الحياة.