في مقاله «في مديح الكسل» يتحدث برتراند راسل عن متعة الكسل في بلدان تتصف بأن كمية العمل المنجز فيها أكبر مما ينبغي إنجازه بكثير، ويرى أنه من الظلم أن يستهلك الإنسان أكثر مما ينتج، وتندرج مقالة راسل في إطار عمل فلسفي عن مجتمع أشبه بالجنة يسوده الفراغ العظيم والعمل القليل..
إنه يتحدث عن يوتوبيا تتحقق في مجتمعات أنجزت ما هو ضروري كي ينعم أبناؤها بعد ذاك بالكسل، أو يمارسوا كسلهم مستفيدين مما جنته أيديهم من ثمار العمل الدؤوب الذي مارسوه طويلاً وبجد.
ما أكثر ما تعنّ علينا متعة ممارسة الكسل، كأن تكون لدينا مهمة يتعين علينا إنجازها، ولكننا نؤجلها للغد أو إلى ما بعد الغد، لا بقرار نتخذه عن وعي، وإنما لأننا ننساق انسياقاً لذلك، كأنّ الأمر يصدر عن منطقة ما في العقل الباطن أكثر مما نأتيه عن وعي، وربما يكون للأمر علاقة بما يمكن أن نصفه آلية الكسل، ذلك أن للكسل لذة تزداد حين ينتابك الشعور أنك عائد بعد حين لن يطول إلى دوامة سريعة وطويلة من العمل.
لكن حديثنا هنا لا يدور عن متعة الكسل، وأهمية عيش هذه المتعة، لنمنح ذواتنا طاقة متجددة في عملنا المقبل، وإنما يدور عن أمر قد تكون له صلة بما قلناه أعلاه، ففي دراسة جديدة ومثيرة، حذّر باحثون هولنديون من أن المجهود العقلي لا يأتي بدون ثمن، فبينما تدفعنا لغتنا اليومية إلى الاعتقاد بأن التفكير المكثف يمكن أن يكون مجزياً..
تؤكد الدراسة الحديثة أن الواقع مختلف تماماً، أظهرت الأبحاث أن كلما زاد المجهود العقلي، زادت المشاعر غير المريحة مثل الإحباط والتوتر، وظهرت ردود الفعل السلبية هذه أثناء أداء مهام مختلفة ولدى شرائح سكانية مختلفة، وأكدت الدراسة أن الشعور التقليدي بعدم الراحة الذي يضرب به المثل تعبيراً عن الشعور بالضيق من الإجهاد الذهني هو أمر وارد علميّاً.
هل علينا إذن أن نكفّ عن التفكير؟. طبعاً لا، فضلاً عن أن هذا محال، فطالما ظلت أدمغتنا سليمة فلا مفرّ من التفكير، أرضينا ذلك أم لم نرد، على الأرجح فإن الدعوة هنا هي محاولة ألا نغرق في التفكير وندمنه، وأن نسعى لسرقة فسحاً من الوقت ننصرف فيها إلى ما يسلي ويبهج، بدلاً من الاستغراق الدائم في التفكير..
وهذا تقريباً ما خلصت إليه تلك الدراسة التي أجريت، كعادة هذا النوع من الدراسات، على عينات من البشر، وأظهرت نتائجها أن التحديات العقلية، مهما تنوعت، تفضي إلى مشاعر سلبية، وبينما يعتقد البعض أن المشاركين يفضلون الأنشطة الذهنية، أكد الباحثون أن هذا غير صحيح، فعلى الرغم من أن الأشخاص قد يختارون مثل هذه الأنشطة طواعية، فإن هذا لا يعني أنهم يستمتعون به..
حيث وجدت الدراسة أن المجهود العقلي يتسبب في زيادة مشاعر الإحباط والتوتر عبر جميع المجموعات.
لطالما مجّدنا الفكر ودعونا إلى شحذ الذهن في التفكير، واستخدام الطاقات العقلية في الاكتشاف والاختراع ورسم سبل التنمية، وكون التفكير جالباً للتوتر، على الأقل في بعض أوجهه، فذلك ليس مبرراً لنبذه، فرغم الصعاب فإن العقول المضيئة تنتج فكراً مضيئاً وتحصن البشر من مخاطر الجهل، وكلما زاد عدد هذه العقول عند أمّة من الأمم اقتربت من النهضة والتقدم والرقي.
اقرأ أيضاً: د. حسن مدن يكتب: لا تقاوم الكسل ولا تستسلم له