30 يناير 2024

إنعام كجه جي تكتب: إضراب المزارعين

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

إنعام كجه جي تكتب: إضراب المزارعين

إنها مشكلة فرنسية يصعب أن تنتهي. فمنذ أن جئت إلى هذا البلد، قبل عقود، وأنا أرى المزارعين ينتفضون بين حين وآخر، ويعلنون الإضراب، ويتوقفون عن الإنتاج. إن إضراب المزارعين لا يشبه إضراب المعلمين، أو سائقي النقل العام، أو موزعي البريد. من ذا الذي ينتظر ساعي البريد في أيّامنا هذه؟

أقسى الأنواع ثلاثة: إضراب الممرضات والزبّالين والمزارعين. فحين تتوقف الممرضات عن العمل للمطالبة بزيادة أجورهنّ تصاب المستشفيات والعيادات بالشلل. أما إذا أضرب الزبّالون فإن منظر تلال القمامة، والروائح العطنة المنبعثة منها، لا يحتمل، عدا عن الجرذان التي تسرح فوقها، وفي جنباتها. لكن إضراب المزارعين هو الأكثر شعبية بين الناس. الكل يتضرر منه، لكنه يعذر أصحابه، ويساندهم.

للتوضيح، لابد من التذكير بأن فرنسا في طليعة البلدان الزراعية في أوروبا. وصفة مزارع تنطبق على الفلاحين، ومربّي المواشي والدواجن، وصانعي الأجبان والعصائر والأنبذة، وما يتفرع منها من مهن تُسمى «صناعات الفم». وسبب قسوة هذا الإضراب، هو أن المزارعين يسوقون جراراتهم الثقيلة من مختلف مناطق البلاد، ويسدّون بها الطرقات والمفارق المؤدية إلى مداخل المدن. يجلس الواحد منهم في حاصدته متدثراً بالثياب الثقيلة وترموس القهوة، يتفرج من عليائه على طوابير السيارات التي يعجز أصحابها عن بلوغ أماكن أعمالهم.

ماذا يريد المزارعون، في كل مرّة، وعلى مدى عقود؟ أن تتدخل الدولة فتحمي منتجاتهم من منافسة البضاعة الأجنبية المستوردة. إن البرتقالة المشحونة، من إسبانيا أو المغرب، أرخص من تلك المزروعة في فرنسا. وقد بلغ من حدّة المنافسة أن الفلاح المحلّي صار يبيع بضاعته بأرخص من الكلفة.

يعيش المزارع مع أطفاله على الكفاف، رغم أن مهنته تفرض عليه الاستيقاظ في الرابعة فجراً، لإطعام الخراف، وحلب الأبقار، وجمع البيض، هذا عدا عن حرث الأرض، وسقيها، وتنظيفها من الأعشاب الطفيلية، وانتظار المطر الشحيح في مواسم الجفاف. وهو يعمل سبعة أيام في الأسبوع، ولا يتمتع بأي إجازة حتى في الأعياد. ومع كل هذا الجهد، فإن ما يتبقى له من دراهم، بعد الجمع والطرح، لا يزيد على فاتورة مطعم فخم في باريس لخمسة أشخاص. ومن لطائف الوجود أن المزارعين يأكلون ويشربون من أراضيهم، ولا يرتادون المطاعم.

يسأل مراسل التلفزيون ربّة بيت في السوق عن سبب شرائها الطماطم المغربية بدل الفرنسية؟ تجيب أنها مواطنة صالحة، وتتفهم محنة المزارعين، وتتمنى لو تدعم المنتوج المحلي، لكن الميزانية لا تسمح. تقول إن الأسعار باتت ناراً، ولابد من تلبية حاجة الأفواه التي تنتظرها في البيت.

منذ أسبوع والطرقات الخارجية في فرنسا متعطلة بسبب إضراب المزارعين. والحكومة تتفاوض، وتعقد الاجتماع تلو الاجتماع، ولا بارقة في الأفق. العالم صار قرية والمستهلك يبحث عن الأرخص، ولو في الصين.

 

مقالات ذات صلة