حواسيب، هواتف ذكية، ألعاب إلكترونية، ألواح رقمية، تلفزيونات... نحن أمام موجة هائلة من الشاشات التي اجتاحت حياتنا وحياة أطفالنا في السنوات الأخيرة، وقد آن الأوان حتى تحرروا أطفالكم من سطوتها على عقولهم من أجل أن تحافظوا على نموهم المتوازن والصحيح.
يقدم المؤلف كارل دي ميراندا في كتابه " Moins D'ecrans Pour Les Enfants "أو " شاشات أقل للأطفال"، خطوات تحرر أطفالنا من قبضة الشاشات:
غلاف الكتاب
في سبعينات القرن العشرين، كان الأطفال بالكاد يشاهدون التلفزيون الذي شكل الشاشة الوحيدة الموجودة في المنزل. ثم أخذت هذه الشاشة الصغيرة تقضم شيئًا فشيئًا من أوقات فراغ أطفالنا مع تزايد القنوات والبرامج المخصصة للأطفال.
وفي الثمانينات والتسعينات غزت الألعاب الإلكترونية تدريجيًا حياتهم اليومية. أما منذ بداية الألفية الثالثة فقد جاء غزو الإنترنت والهواتف الذكية والألواح الرقمية.
في غضون أربعين عامًا انتقلنا من شبه لا شيء إلى تعرض كثيف لكل أنواع الشاشات وصار الأطفال يتنقلون على طول النهار وعرضه بين مختلف أدواتها.
الإدمان الرقمي.. إحصاءات مخيفة
وقد دلت الإحصاءات التي تنطبق على مختلف البلدان، أنه كلما كان دخل الأهل منخفضًا، كلما أمضى الطفل وقتًا أطول أمام الشاشات وكذلك الأمر بما يتعلق بمستوى الأهل التعليمي، فكلما كان هذا الأخير منخفضًا كلما أمضى الطفل وقتًا أطول أمام الشاشات أيضًا. كما أثبتت دراسات علمية مختلفة وجود صلة بين زيادة التعرض للتلفزيون والشاشات المختلفة وبين انخفاض معدل النتائج المدرسية ومستوى الإعداد العلمي والمهني الذي يصل إليه الطفل في ما بعد.
لقد وصل الأمر لدى بعض الأطفال إلى نوع من الإدمان على الشاشات، حتى أن بعض البلدان مثل الصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة والهند وسواها صارت تضم مراكز لمحاربة «الإدمان الرقمي» لتمكين الشباب المدمنين عليه من استعادة حياة طبيعية. ولكن حتى قبل بلوغ معدلات الإدمان الخطيرة هذه، ثمة عدد كبير من الأطفال يخضع للنتائج السلبية المترتبة على استهلاك الشاشات المفرط.
قبل أن نتطرق إلى هذه النتائج السلبية، دعونا نفهم لماذا تمارس الشاشة هذه القوة الجاذبة على أطفالنا.
إذا تسنى لكم أن تنظروا إلى طفل في الثالثة من عمره يشاهد برامجه الأولى أمام شاشة تلفزيون، ستكتشفون القوة المغناطيسية التي تمارسها هذه الشاشة عليه. فالطفل سيكون مأخوذًا بالكامل أمام ما يجري على الشاشة، كما لو أنه غائب عن كل ما حوله ويحلم بالمشهد الذي يراه. تترافق هذه الحالة من الذهول المغناطيسي بنوع من الاسترخاء والإحساس المريح فينسى الطفل محيطه كما الحالم النائم الذي لا يشعر بالعالم من حوله.
ومع ألعاب الفيديو أصبح الأطفال يشاركون في الحلم، تمامًا كما نقوم بدور في أحلامنا ونصير هذه الشخصية أو تلك التي تختلف عما نحن عليه في العالم الحقيقي. وحين يلعب الطفل بألعاب الفيديو، فهو ينخرط في اللعبة كما ينخرط في الأحلام التي تراوده وهو نائم. وهكذا فإن الشاشات تمكن من دخول عالم الأحلام والحالات الداخلية المرافقة لها.
صحيح أن كتب الأطفال وحكاياتها تمكن الطفل من الانغماس في عالم الأحلام أيضًا، لكن الطفل يعمل على بنائه الذهني الخاص انطلاقًا من المعلومات التي يتلقاها، وهذا البناء بطيء الوتيرة ومتلائم مع وتيرة القراءة مما يجعل الانخراط الشخصي في الحلم محدودًا. أما الشاشة فهي تدخل الطفل بسرعة في حالة الحلم المنفصل عن الواقع، وهي حالة تلائم جزءًا من تركيبتنا البيولوجية التي تقودنا إلى التعلق بحالة الحلم هذه والاسترخاء الذي يرافقها خارج الواقع وقيوده.
ومع وصول الإنترنت، صارت الشاشات كذلك وسيلة هائلة للوصول إلى المعلومات وللتبادل الاجتماعي ومعها نجد وسائل لولوج العالم الحقيقي وفهمه بشكل أفضل وامتلاك وسائل لتطوير تفاعلات اجتماعية. وهكذا حين يبلغ الطفل سنته الثامنة ومع تقدمه في السن، يستخدم الشاشات للاستعلام والتبادل والتواصل مع الآخرين ويجد فيها أدوات يحاول بواسطتها إرضاء مختلف الرغبات الكامنة في داخله وهو ما يعطي الشاشة سطوة كبيرة عليه. وإذا ما وضعت أدوات المعلومات والتواصل هذه بين يدي أشخاص ناضجين وحكيمين، عاشوا تجاربهم في الحياة، سيقومون باستعمالها بطريقة مفيدة.
وفي المقابل، إن وضعتها بين أيدي أطفال تحركهم قوى داخلية فوضوية ولم يبلغوا بعد سن النضج ولا التوازن الداخلي، ستجدونهم يستخدمونها بطريقة سيئة. فكم من الصبية يمضون أوقاتهم في التقاتل في ألعاب الفيديو من أجل تحقيق النصر المزعوم؟
وكم من البنات يفقدن شخصياتهن وذواتهن في صورهن الافتراضية ووراء سعيهن لأن يكنّ الأجمل والأكثر شعبية؟
هل ستترك طفلك يقود سيارة في حين أنه لم يتعلم بعد قيادة السيارات؟ كلا بالطبع. حين نقدم للأطفال وسائل بهذه القوة الهائلة، يجب أن نتأكد من أنهم يعرفون كيف يستعملونها. ونحن نرى بمتناول يد أطفالنا حاليًا أدوات معلومات وتواصل هائلة القوة تمكنهم من التصرف كما الكبار تقريبًا، وهذا أمر يمارس عليهم جاذبية قصوى وسيقودهم بالضرورة إلى مواجهة صعوبات جمة.
للشاشات إيجابياتها حينما يكون استعمالها تحت السيطرة
لقد انتبه العديد من التجار ومنتجي المحتويات الرقمية إلى هذه الجاذبية الكبيرة التي تمارسها الشاشة على الأطفال ورأوا فيها فرصة هائلة لتحقيق الأرباح. وهكذا نرى خلف المحتوى المنشور على الشاشة نوايا مبيتة ومهندسة للحصول على الحد الأقصى من اهتمام الأطفال. إن الناس الذين يصممون المحتويات الموجهة للأطفال غالبًا ما يكونون من الخبراء في جذب الانتباه. وهم يستخدمون فضول الطفل الطبيعي التي جعلت الطبيعة عملية إرضائه مترافقة مع إحساس بالمتعة (إفراز هرمونة الدوبامين).
لذا، فإن بعضهم مستعد للقيام بأي شيء من أجل إثارة فضول الطفل عبر طرق مبتكرة تنجح في ممارسة الغش على هذا الفضول الطبيعي لأنها تقدم له نوعية سيئة هادفة فقط لخدمة مصالح المنتج من دون أي اعتبار لمصلحة الطفل. وهكذا، فإن استغلال آلية الفضول الطبيعي لدى الطفل ستؤدي على المدى الطويل إلى إضعافها وإفقادها نضارتها.
ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن للشاشات إيجابياتها حينما يكون استعمالها تحت السيطرة، من حيث المدة ونوعية المحتوى. فالتلفزيون قد يوفر للطفل راحة واسترخاء من وقت إلى آخر، وبإمكانه أن يغني مفرداته اللغوية ويجعله يكتشف أشياء جديدة ويتعرف على معلومات جديدة وينفتح على ثقافات أخرى. وقد ثبت أن البرامج التلفزيونية التي تلتفت إلى القيم الاجتماعية الإيجابية كالعطاء والتضامن مع الآخرين يمكن أن تولد تحسنًا في علاقات الطفل الاجتماعية. كما تقدم البرامج التلفزيونية مساحة للتفاعل الاجتماعي مع الرفاق والأسرة في عملية الحديث عنها والتعليق عليها وتقييمها.
وبالنسبة إلى ألعاب الفيديو، فإن المشهد ليس سوداويًا بالكامل، ومن المهم أن يعرف الطفل أن موقفكم تجاه ألعاب الفيديو ليس سلبيًا بالمطلق. فقد كشفت دراسات علمية أن ألعاب الفيديو يمكن أن تحمل نتائج إيجابية عند الطفل كتحسن قدرات حل المشكلات لديه وزيادة قدراته المعرفية من ذاكرة وتوجه مكاني وإدراك.
كما أن الألعاب البسيطة وغير الباعثة على التوتر قد تساعده على الاسترخاء وتغير مزاجه، وربما اكتسب ليونة أكبر في مواجهة الفشل والتعاطي معه وقدرات تعاون اجتماعي في الألعاب التي تتضمن مساهمة فرق من اللاعبين، بالإضافة إلى قدرات على اتخاذ القرارات.
أما الشبكات الاجتماعية فهي قد تقدم انفتاحًا على العالم وعلى الآخرين وتمكن من الانخراط في حلقات من الأصدقاء. كما تمكن الإنترنت من الحصول على كامل المعلومات التي نبحث عنها وتسمح بمتابعة الأحداث الراهنة حين يكون الشاب قد بلغ السن المناسبة لذلك.
أضف إلى هذا أن الفيديوهات المنشورة على الشبكة تمكن من الحصول على دروس مساعدة في مختلف المجالات، كالنشاطات الفنية والابداعية والرياضية والمطبخية... وتعرض محتوى دقيقًا نبحث عنه من برامج ووثائقيات وأغانٍ ومسرحيات و«اسكتشات» هزلية وسواها...
ولا ننسى أن الشاشات تحمل معها جاذبية لا يستهان بها بالنسبة إلى الأهل، فهي تمكنهم من الحصول على الهدوء. فالشاشة وسيلة سهلة وبمتناول الجميع، يكفي أن نترك الأطفال أمامها ليحل السلام في المنزل.
ولكن قافلة المشكلات التي ترافق الشاشات لن تتأخر في اجتياح الحياة العائلية اليومية بشكل تدريجي. وما كان يبدو في البداية حلاً سهلاً سيتحوّل في النهاية إلى مشكلة جديدة ينبغي العمل على حلها.
فكيف نعيد إعطاء مكانة متوازنة للشاشات في حياة أطفالنا؟
سنتطرق الآن إلى مختلف المبادئ والوسائل التي تسمح بضبط تعرض الطفل للشاشات، ولا ننسى أن هذه مبادئ عامة أوصى بها اختصاصيون ومؤسسات تعنى بهذا الموضوع ويستلزم تطبيقها التحلي بالليونة والمهارة من أجل جعلها تتلاءم مع خصوصية كل وضع.
لكن ثمة وصايا ثلاث أساسية وبسيطة وذات قيمة كبيرة ينبغي أخذها أولاً بالاعتبار:
الأولى: قاعدة 3-6-9-12
قاعدة وضعها الطبيب النفسي الفرنسي سيرج تيسرون، وهي منتشرة في الكثير من البلدان وتنص على ما يلي: لا تلفزيون بتاتًا قبل سن 3 سنوات، لا ألعاب فيديو يلعب الطفل بها لوحده قبل سن 6 سنوات، لا إنترنت قبل سن 9 سنوات ثم إنترنت برفقة الأهل، لا شبكات اجتماعية قبل سن 12 سنة وإنترنت تحت المراقبة بعد 12 سنة. هذه القاعدة، كما يقول واضعها، ضرورية ولكن غير كافية بمعنى أن مراقبة ذكية يجب أن تظل مستمرة في كل عمر.
الثانية: قاعدة الخطوات الأربع
وهي من وضع العالمة النفسية سابين دوفلو، وتركز على الاستخدامات اليومية كما أنها سهلة الحفظ وتنص على منع استعمال أو وجود أي شاشة في الصباح وخلال تناول الوجبات وقبل النوم وفي غرفة الطفل. تهدف هذه المحظورات الأربعة إلى تحسين قدرات الطفل وراحته، فهو سيتمتع بقدرة أكبر على التركيز من دون شاشات صباحًا، وبقدرة على التفاعل والحديث مع أفراد الأسرة بدون تلفزيون على المائدة، وبنوم أفضل بدون تلفزيون قبل أن تحل ساعة النوم بساعة، وبمزيد من السكينة والتوازن الداخلي بدون شاشات في غرفة النوم.
ويمكن أن يضاف إلى هذه الخطوات الأربع خطوة أخيرة وهي ممنوع استعمال أو مشاهدة أي شاشة قبل إنجاز الدروس والفروض المدرسية، وفي كل الحالات تمنع الشاشات في الدقائق الثلاثين التي تلي العودة إلى المنزل. هذه القاعدة تمكن الطفل من التحدث مع أهله عند عودته إلى المنزل ولا تشتت انتباهه لدى أداء فروضه المدرسية.
الثالثة: قاعدة عدد الساعات الأسبوعية بحسب السن
تهدف إلى وضع سقف في عدد ساعات التعرض لكل الشاشات، وهي متفق عليها بين كل اختصاصيي علم نفس الأطفال، وتنص على ما يلي: لا شاشات قبل سن الثالثة، ثم عدد محدد مسموح به في الأسبوع يوازي عدد سنوات عمر الطفل مع حد أقصى لا يتعدى 12 ساعة أسبوعيًا، أي في الرابعة من العمر 4 ساعات أسبوعيًا بمعدل نصف ساعة يوميًا، في السابعة 7 ساعات أسبوعيًا بمعدل ساعة واحدة يوميًا، في العاشرة 10 ساعات أسبوعيًا أي أقل بقليل من ساعة ونصف الساعة في اليوم. وابتداء من سن الثانية عشرة وحتى ثمانية عشرة، يكون الحد الأقصى 12 ساعة في الأسبوع.
وفي سبيل وضع قواعد تصح لكل طفل من أطفال الأسرة علينا أن نضع حدودًا في ثلاثة مجالات هي من صلب القواعد المذكورة آنفًا، وهذه الحدود هي: تحديد محظورات استعمال الشاشات لكل طفل على حده بحسب سنه، تحديد أوقات اليوم التي يجب أن تخلو من الشاشات، تحديد المدة القصوى المسموح بها يوميًا لكل طفل على حدة بحسب سنه.
إليكم أمثلة على تحديد محظورات الاستعمال:
- لا تلفزيون قبل سن الثالثة
- كل ألعاب الفيديو مسموح بها بعد سن السادسة عشرة
- لا دخول على الشبكات الاجتماعية قبل سن الثانية عشرة
- لا هاتف محمول قبل سن الثانية عشرة
في موازاة الرقابة على عدد ساعات التعرض للشاشات، يجب أن يمارس الأهل رقابة على المحتويات. حين يكبر المراهق، قد يشعر أن برمجية رقابة المحتوى تمس بكرامته وحياته الشخصية فيتمرد عليها، ومن المفضل في هذه الحالة أن تمر الرقابة عبر حوارات دائمة مع الأهل حول المحتوى الذي يشاهده. وفي حال كان جميع أطفال الأسرة تحت سن الثانية عشرة، يوصى بشدة إنزال نظام مراقبة يمكن الأهل من الاطلاع على ما فعله الأطفال خلال استخدامهم للحاسوب لممارسة مراقبة دقيقة. ويجب أن تقولوا للطفل أنكم تمارسون هذه الرقابة من أجل مصلحته حتى لا يشعر أنه يتعرض للتجسس من قبلكم.
اقرأ أيضًا: كيف تحمي طفلك من الإعلانات الإباحية على الإنترنت؟