07 نوفمبر 2022

كيف أربي طفلي ولا أعاقبه؟

أستاذة وباحثة جامعية

كيف أربي طفلي ولا أعاقبه؟

بات الجميع يعلم الآن أن الانضباط الذاتي هو أفضل أنواع الانضباط، وهو الذي يسعد الأهل ويخفف إلى حد بعيد الاضطرابات البدنية المنفسية لدى الطفل. فقد ثبت أنه يزيدهم ثقة بالنفس وإحساساً بالمبادرة ونجاحاً في المجتمع وفي المدرسة.

لكن كيف السبيل إلى بلوغ هذا الانضباط، أي كيف السبيل إلى تربية أطفالنا من دون اللجوء إلى العقاب؟

الإجابة نجدها في كتاب"كيف أربي طفلي ولا أعاقبه؟" للمؤلف د. توماس غوردن كما يلي:

كتاب
كتاب"كيف أربي طفلي ولا أعاقبه؟"

لماذا يواصل الأهل والمدرسون استخدام السيطرة والعقاب في حين أنه يصعب كثيراً إثبات فاعلية هذه الوسائل في تعديل سلوك الطفل؟
لماذا يصرّون على الاعتقاد أنهم مجبرون على فرض نظام مستند إلى السلطة في حين أن عليهم الاعتراف بأن أغلبية الأطفال يهربون منها أو يصارعونها بكل آليات التأقلم المتاحة أمامهم؟

ثلاثون عاماً من الخبرة المهنية إلى جانب الأهل والمدرّسين قدمت لي بعض الإجابات عن هذه الأسئلة.

وكانت واحدة من هذه الإجابات بسيطة جداً: يواظب الناس على السيطرة لأنهم يظنون أنها النقيض الوحيد الذي يحمي من الوقوع في التراخي. فأغلبية الكبار يفضلون السلطة على التراخي وممارسة هذه السلطة بدل تركها بين أيدي الأطفال حتى لا يسيطروا هم على أهلهم.

أنا أتعاطف تماماً مع من يخشى الإفراط في التسامح، هذا لأني رأيت ماذا يجري حين يترك الأهل والمدرّسون الحبل على غاربه للصغار من دون وضع أي قواعد للسلوك: يصير الكبار تعساء حينما يقل احترام الصغار لهم، ويصير الصغار يتصرفون بلا تفكير ويتسمون بالأنانية وعدم التعاون حتى يبلغوا حدّاً لا يطاق.

لكن ثمة طرائق تهدف إلى التأثير في الصغار من أجل تعديل سلوكياتهم المرفوضة وهي طرائق تحقق رضى الأهل والصغار معاً.

فما هي هذه الطرق؟

تغيير طريقة التفكير

يظن أغلبية الكبار أن سلوك الطفل إما أن يكون «جيداً» وإما أن يكون «سيئاً». يلصق هذان النعتان إلى جانب سلوك الطفل منذ نعومة أظفاره. وأنا أرى أن الكبار يعتبرون سلوك الطفل سيئاً حينما يقوم بعمل يعتبره الكبار مخالفاً لما ينبغي أن يقوم به بحسب رأيهم. «السلوك السيئ» هو بالتالي عمل يقود إلى نتيجة غير مرغوب فيها بالنسبة للكبار. وهذا يعني أن سلوك الطفل سيئ بنظر الكبار ولكنه ليس كذلك بنظر الطفل. فهذا الأخير يقوم بما هو بحاجة إلى القيام به من أجل أن يرضي واحدة من حاجاته.

بكلمات أخرى، إن الكبير هو الذي يرى الجانب السيئ في السلوك في حين أن الطفل لا يراه.

حين يدرك الأهل هذا الفرق الأساسي، تختلف نظرتهم إزاء أطفالهم اختلافاً كبيراً. يأخذون بالنظر إلى أفعال الصغار كمجرد سلوكيات هادفة إلى تحقيق حاجاتهم فلا يعودون يطلقون عليها أحكاماً قيمة بوصفها «جيدة» أو «سيئة».

بيد أن هذا لا يعني أبداً أن على الكبار أن يقبلوا بكل ما يصدر عن الطفل من تصرفات، لأن الطفل يقوم بأفعال لا يحبها الكبار أو هي أفعال تهدد سلامته. المهم أن نفهم هنا أن الصغير لا يقصد أن يقوم بعمل ضد الكبار بل هو يقوم بعمل من أجل نفسه.

وحين يعدل الأهل موقفهم وينقلون عقدة المشكلة من الطفل إلى الكبير، يتمكنون من فهم منطق بعض الحلول غير المرتكزة على السلطة والتي تمكنهم من مواجهة السلوكيات التي لا يريدونها.

ولمزيد من الفهم نقول إن علاقة الطفل بالكبار تندرج تحت ثلاثة أبواب رئيسية:

  • سلوك ينم عن مشكلة لدى الطفل: مثلاً، الطفل غاضب لأنه ما من رفيق يستطيع اللعب معه...
  • سلوك ينم عن مشكلة لدى الأهل: مثلاً، الطفل يثير ضجة كبيرة خلال لعبه بينما والده يقوم بمكالمة هاتفية...
  • سلوك الطفل لا يطرح أي مشكلة لا عليه ولا على الأهل: مثل اللحظات الجميلة في العلاقة حيث الطفل يستمتع بهدوء من جانبه أو حين يقوم الطفل بنشاط مشترك مع أهله.

كيف أربي طفلي ولا أعاقبه؟

لمعالجة الوضعيتين الأولى والثانية، ثمة آليات غير عقابية تعدّل السلوك الذي ينتهجه الطفل والذي يطرح مشكلة لدى الأهل:

الخيار الأول: اكتشاف حاجة الطفل

كثيراً ما يتحزّر الأهل طبيعة المشكلة التي يواجهونها مع الرضيع الذي يبكي: هل هو جائع؟ مريض؟ مصاب بمغص...؟

لكن حين يكبر الطفل، يستطيع الأهل اكتشاف سبب السلوك المرفوض بطرح بعض الأسئلة البسيطة:

لماذا تبكي؟ ماذا تريد؟ لماذا لا تلعب مع أخيك؟

لماذا لم ترتدِ ملابسك بعد؟

إن إجابة الطفل عن هذه الأسئلة ستعطيكم مؤشرات على ما ينبغي القيام به من أجل الحصول على سلوك مقبول.

الخيار الثاني: التبديل

تقضي هذه الطريقة باستبدال السلوك غير المقبول بسلوك مقبول بالنسبة إلى الأهل. فحين يأخذ الطفل في سنته الأولى أو الثانية بتمزيق جوارب أمه الجديدة، ما عليها إلا أن تعطيه جوارب قديمة تستغني عنها ولن يشعر الطفل بالفرق.

الخيار الثالث: تغيير البيئة المحيطة

أغلبية الأهل والمدرسين يعرفون بحدسهم كيف يقدرون على إنهاء سلوك غير مقبول بتعديل بيئة الطفل بدل القيام بجهود غير مثمرة لتعديل الطفل نفسه.

من منّا لم يلاحظ طفلاً مزعجاً شديد التشكي ينغمس تماماً وبهدوء بلعبة تمتعه حينما نوفر له الأدوات المناسبة ككتاب تلوين مثلاً أو أي لعبة أخرى.

وإذا كان الطفل مضطرباً قبل الذهاب إلى النوم يستحسن بالأهل أن يوفروا له جواً هادئاً عبر قراءة قصة له وإطفاء جهاز التلفزيون وما شابه.

وبإمكانهم تجنب الكثير من السلوكيات الخطرة بتعديل ترتيب البيئة كاستخدام صحون وأقداح غير قابلة للكسر ووضع السكاكين والأدوات الحادة في أماكن لا يطالها الطفل وكذلك الأدوية.

الخيار الرابع: استخدام صيغة الـ«أنا» للمواجهة

الرسالة التي تبدأ بـ«أنا» لا تحمل أي توبيخ أو أي حكم قيمة بل تعبر عما يشعر به الكبير إزاء سلوك مرفوض، مثلاً:

  • «حين يكون صوت التلفزيون عالياً جداً، لا أستطيع التحدث مع فلان..»
  • «أنا أخشى ألا تنمو الأزهار التي زرعت بصلاتها إذا ما مشيت فوقها..»
  • «حين أنتظر طويلاً حتى تجهز نفسك سوف أصل متأخراً إلى عملي»...

فاستخدام صيغة المتكلم بدل استخدام صيغة المخاطب تحول دون تحميل ما يقال شحنة توبيخ وانتقادات وقيود، كالقول مثلاً:

  • «أنت تعرف أنه يجب ألا تفعل ما تفعله..»
  • «توقف عن إصدار ضجة وإلا سأضعك في غرفتك»
  • «يجب أن تخجل من نفسك»

كما أن هذه الصيغة تحث الطفل على تعديل سلوكه بنفسه احتراماً للآخرين. فالأطفال الذين لا يُقلّل من شأنهم بسبب سلوكهم أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين وتعديل سلوكهم الذي يتسبب بمشكلة لسواهم.

وفي المقابل، فإن الكلام الذي يعتمد صيغة المخاطب يثير حفيظة الطفل ويدفعه إلى المقاومة كما أنه يدمر احترامه لنفسه ولن يكون من المدهش أن يمارس انتقاماً يستخدم فيه الصيغة ذاتها ما يزيد الأجواء تعكيراً ويفضي إلى آلام وبكاء وتهديدات بالعقاب.

الخيار الخامس: استخدام صيغة الـ «أنا» للوقاية

تعبّر هذه الصيغة عن حاجة لدى الأهل تستدعي التعاون من قبل الطفل أو قيامه بعمل معين. وعلى عكس صيغة الـ «أنا» للمواجهة التي تهدف إلى تعديل سلوكيات قد وقعت، وتهدف هذه الصيغة إلى حمل الطفل على القيام بسلوك معين في المستقبل بطريقة ترضي حاجة الكبير.

حين يخبر المرء الآخرين بحاجاته يساعدهم على فهم ما ينوي القيام به وهذا ما يجنبهم المفاجآت ويحضرهم للسلوكيات المحتملة التي يتوقعها منهم، مثلاً «أود أن نقرر الآن ما الذي يجب أن نفعل قبل أن نغادر لقضاء العطلة حتى يتوافر لدينا الوقت الكافي للقيام بكل شيء».

يدهش الأهل ويفرحون حين يرون إلى أي درجة يكون أولادهم مستعدين للتعاون معهم حين يسمعون منهم هذه الطلبات. ومن المهم أن نشرح للطفل أسباب الطلب الذي يعبر عن حاجة الكبار بشكل مبسط وسيكون الطفل على استعداد كامل للتجاوب مع أهله لأن الطفل يستمد تقديره لنفسه من تقديرهم له وأكثر ما يسعده هو أن يسعدهم.