اعتادت عقولنا على ربط كلمة تحدٍ بشيء إيجابي قوامه العزيمة والإصرار وتخطي الصعاب، إلى أن ترجمها بعض المراهقين بصورة خطأ وأصبحت مجموعة من ألعابهم مغلفة بالتحدي، الذي يصل في بعض الأحيان إلى إيذاء النفس، وهو ما جعل كثيراً من الأهالي في حالة خوف دائم على أبنائهم من أن يصيبهم مكروه نتيجة الانجراف وراء مثل تلك الألعاب، مثل تلك الأسرة في إحدى الدول العربية التي انقلبت حياتها رأساً على عقب بعد أن تعرض ابنها لإصابة بالغة نتيجة مشاركته في لعبة تحدٍ مع زملائه تضمنت اصطفافهم بجانب بعضهم بعضاً ليركض هو ويدفعونه إلى الأعلى ثم يتركونه يسقط أرضاً، لينتج عن ذلك سقوطه على رأسه مما تسبب له في كسر في فقرات الرقبة وإصابته بشلل تام.
تقول إيمان إسماعيل، موظفة، «أخشى على أبنائي كثيراً عندما أرى مقاطع فيديو تروج لتلك الألعاب التي تنتشر كسرعة النار في الهشيم بين المراهقين والأطفال عبر وسائل التواصل المختلفة، ويكون مفادها تحدي أنفسهم وتخطي الصعب فيها للفوز بكلمة مدح أو ثناء من أصدقائهم. وأتذكر موقفاً مرت به إحدى الأمهات التي وجدت ابنها (15 عاماً) على حافة الموت في غرفته بسبب مشاركته في تحد ضمن لعبة على الشبكة العنكبوتية، وكم يحزنني ما مرت به تلك الأسرة حتى تعافى ابنها، فمن المؤكد أنها عانت جراء ما حدث والذي يصعب نسيانه ولو بعد حين».
وتضيف رضوى محمود، ربة منزل، «أتذكر يوماً حذرت شرطة دبي من لعبة «تحدي الانتحار» وتعرف باسم «مومو»، التي كانت متداولة على الإنترنت، وتسببت في وفاة طفلين في دولة أجنبية، وأسعدني كثيراً سماع ابني الأوسط يذكر إخوته بعدم تتبع أي تحدٍ يمكن أن يتسبب لهم في ضرر ولو بسيطاً، وعندما تحدثت معه عن سبب تذكره لهذا الموقف الذي مرت عليه فترة طويلة، أخبرني أنه لا ينسى ملامح وجهي وتأثري الشديد وأنا أخبرهم بتلك الواقعة المأساوية التي حدثت للطفلين، وقال لي: لا أريد أن نتسبب لك في هذا الحزن إذا ما انسقنا وراء هذا الأمر فنجرح قلبك، والحقيقة أن رده هذا رغم أنني لم أتوقعه إلا أنه أثلج صدري وجعلني أشعر بقيمة الدور الذي يلعبه الآباء والأمهات في حياة أبنائهم».
هناك أسباب رئيسة وأخرى ثانوية للانجراف في دوامة تحديات الـ"سوشيال ميديا"
أسماء نزار إدلبي، دكتوراه في القياس والتقويم التربوي والنفسي، ومديرة مركز أفق الإبداع للتعليم وتنمية المهارات، تبين «تماماً كما هي الحال في عالم الموضة، تأتي «تريندات» وتخرج عن الأنماط بسرعة كبيرة، وهناك ما يبدو رائعاً في لحظة ما وقد يبدو بغيضاً في اللحظة التالية، لذلك تتغير «تريندات» الفيديوهات ذات الشعبية باستمرار وتظهر اتجاهات جديدة كل ثانية، فإذا كنت مبدعاً وترغب بالمزيد من الإعجابات ولكي يتم التعرف إليك افتراضياً فعليك مواكبة هذه الـ «تريندات» وهذه المفاهيم السطحية الساذجة التي قد تحصد أرواحاً بدم بارد، إنها كارثة حقيقية وذلك بسبب إمكانية تعرض منفذيها لأضرار صحية وجسمانية قد تصل إلى الوفاة».
وعن سبب الانجراف وراء التقليد الأعمى والخروج عن المألوف لتحديات المراهقين، توضح إدلبي «هناك أسباب رئيسة وأخرى ثانوية للتقليد السلبي والانجراف في دوامة تحديات الـ "سوشيال ميديا" منها:
- الانتماء إذ يبحث الأطفال والمراهقون بشكل دائم عنه مع مجموعات خارج حدود المنزل، فيقومون بالتقليد للحصول على هذا الانتماء.
- هناك البعض ممن يبحثون عن تكوين صورتهم الذاتية وهويتهم فيقومون بالتجريب من خلال تقليد سلوك أصدقائهم أو المشاهير.
- ولا نغفل أهمية حصد الإعجابات وزيادة المشاهدات عند المراهقين فيلجأون إلى إنشاء بعض مقاطع الفيديوهات الخطيرة للحصول على المزيد من الإعجابات والمتابعين، وتعد التحديات طريقة سهلة للحصول على هذا الهدف، كونه أكثر جذباً وتشويقاً.
- وهناك أيضاً تأثير الأقران إذ عملت وسائل التواصل الاجتماعي على تضخيم تأثيرهم، لتصبح أكثر خطورة بكثير مما كانت عليه من قبل.
- ثم يأتي الشعور بعدم الرضا عن الذات وهو ما يؤدي إلى هذا التقليد الأعمى.
- وضعف مهارة بعض المراهقين والأطفال في تقييم المخاطر يدفعهم لهذا التقليد غير المدروس.
- ونجد كذلك من يرى في هذه التحديات التسلية والإثارة، خاصةً عندما لا يرون الأثر السلبي في الناس الذين يتعرضون للأذى.
كل ذلك يفرض على الأهل تكريس المزيد من الوقت والطاقة والكثير من الاهتمام لسؤال فلذات أكبادهم: "أرني، أخبرني، واشرح لي ماذا يعني ذلك؟ ما شعورك عندما ترى ذلك؟" لمعرفة ما يدور في ذهنهم، وكيف يقيّمون ما يشاهدونه على منصات التواصل الاجتماعي والتي يتعدد محتواها ويختلف ويتنوع بشكل مخيف، فربما قد يشكلون طوق النجاة في هذا العالم الافتراضي الحائر، والذي أدخل الأسر في دوامة كبيرة وجعل من حتمية انتباهها واجباً ملزماً في زمننا هذا".
ألعاب إلكترونية خطرة تجتاح البيوت
الدكتورة فاطمة الغرباوي، محاضرة بقسم علم الاجتماع في جامعة الشارقة، تؤكد أن الألعاب الإلكترونية «اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي البيوت والعقول ومدركات الأفراد وخاصة الأطفال في المجتمعات العربية والغربية على حد سواء، وباتت تشكل موجهاً لسلوكياتهم وتصرفاتهم وأساسيات أفكارهم، ولا شك أن الألعاب الإلكترونية والتحديات الموسمية التي تفرضها هذه الوسائل تشكل جزئياً من التقيد النفسي والاجتماعي والعاطفي، والتي ساهمت في موت عدد من الأطفال حول العالم بالانتحار أو بإقبال آخرين على دفع زملائهم للموت دون الإحساس بالندم والخوف، وهي المشاعر الطبيعية لرهبة الموت والتي تتخطاها هذه التحديات».
بُعد الأبناء عن أسرهم يشكل مدخلاً لكافة المحرضات الاجتماعية غير المحببة
وتتابع الدكتورة فاطمة «تبدأ هذه الألعاب بفرض قيود وأوامر تهدف لفصل هؤلاء الأطفال عن واقعهم وما يحيطه من قيم وعادات وتقاليد ومن ثم تصل بهم للموت أو الانتحار أو قتل أحد زملائهم، وبالنظر لهذه التتبعات نلاحظ أنها تستغل فجوات العلاقات في النطاق الأسري بشكل عام، ففصل الطفل تماماً عن واقعه الاجتماعي حتى وإن تجاوز الخمسة عشر عاماً يعكس ثغرة أسرية عميقة في التواصل بين الوالدين وأطفالهما وقدرتهم على التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم وكافةً ما يمرون به خلال محطات حياتهم. وتتطابق هذه الحالات والفشل الدراسي والاجتماعي ولكنها تعكس وجهاً آخر وأكثر قوة وعنفاً، فبعد الأبناء عن أسرهم يشكل مدخلاً لكافة المحرضات الاجتماعية غير المحببة منها «ألعاب الموت، ورفقاء السوء، والعادات المنبوذة اجتماعياً». فلابد من جلوس الآباء والأمهات مع أبنائهم وخلق أجواء أسرية بعيداً عن وسائل التواصل، التي تصبح هي البديل الأول للتواصل الأسري، ولا أعني بحديثي أن ذلك يمكننا من إيقاف التعلق بالترفيه الإلكتروني، كون وجوده أصبح حتمياً ولا مفر من تجنبه، ولكن بإمكاننا توجيهه بما يتماشى مع تربيتنا وعقليتنا وديننا بالدرجة الأولى».
سدوا فراغ المراهقين ولا تغفلوا عنهم
من جانبها، تشير شيخة محمد الكعبي، مدربة تحفيز ذاتي، «أغروا المراهقين بالتجربة فانساقوا دون رادع في ساحة التحديات القاتلة، فأين نحن من هذا؟ وما الخطأ الذي لم ننتبه له؟ هل الثقة الزائدة بالأبناء هي خطؤنا؟ أم حملناهم عبء سد الفراغ الذي كان يجب أن نملأه نحن لهم؟ فأين الثغرة التي سهونا عنها ولم ننتبه لها؟ أين نقطة سقوط القناع في أننا لم نلتق مع أبنائنا في فهم المحيط الاجتماعي والعالمي، الذي يلتف حولهم ليخنقهم فيجربوا دون إدراك أو تدارك لخطورة ما يفعلون؟ فحقاً نحن من تغافلنا عن الانسجام معهم، وعن سؤالهم وما يتعرضون له من مغامرات وتحديات عالمية».
يجب ألا نلوم العالم فقط وننسى أنفسنا وسهونا عن أولادنا وعن الحياة معهم