«لو كانت حياة الإنسان خطاً مستقيماً، لكانت الولادة هي النقطة التي يبدأ منها هذا الخط، وكان الممات هو النقطة التي ينتهي إليها آخِره، وما بينهما هي الحكايات التي يحياها، والوجوه التي يلتقيها. ولكن يا تُرَى أيَّ الحكايات يختار الإنسان ليحكي؟ وأيَّ الوجوه ينتقي ليتحدث عنها؟ وحدها هي الحكايات والوجوه التي تقاوم النسيان، وتأبى إلا أن تعيش في الوجدان داخل كل إنسان». مارون عبود- وجوه وحكايات.
بيننا وبين الأديب اللبناني الكبير مارون عبود (1886-1962) زمن طويل، تعاقبت خلاله أجيال، وتغيّرت فيه أشياء كثيرة، فالقرية الصغيرة التي عاش فيها أديبنا، ألهمته كتابة نقدية يتحدث فيها عن الوجوه التي التقاها بأسلوب رائع لا يمكن لمن قرأ الكتاب وتمعّن فيه، إلا أن يعجب به إعجاباً يجعله يتذكر الأوصاف التي كانت بحدّ ذاتها مدرسة.
لم يعد لقاء الناس في قرية صغيرة، بل لم يعد ذلك في بلد واحد نقابل فيه من يتحدثون بلغتنا، ولهم عاداتنا وتقاليدنا، فقد توسعت دائرة العيش لتشمل العالم كله، فصرنا نرى ونتعلم، من هنا وهناك، وصارت الوجوه والحكايات أكبر من الوصف، ربما تراجعت البلاغة، وتقهقرت اللغة، لكن الوجوه كثرت وتنوعت، وصارت حقيقية ومزيفة، واقعية وخيالية، طبيعية ومعدّلة..
مع ذلك، ما زلنا نبحث عن الفطرة التي خلقنا الله عليها، كي نتمكن من التواصل فيما بيننا، ولو أن الوجوه صارت مشوّشة، ولم نعد نعرف إن كانت تعابيرها تتحدث عن حكاياتها، أم لا.
تعابير الوجوه حالات فردية
أكثر من سبع مليارات شخص يعيشون على وجه الأرض، ولكل شخص تعابير وجهه التي تميزه، وتنقل إلينا مشاعره المختلفة، فالوجه هو أحد أقوى أدوات التفاعل الاجتماعي.
وتعابيرنا العاطفية متنوعة، وغنيّة، ومعقدةّ مثل وجوهنا، هذا ما يراه باحثون في مختبر facesyntax ببريطانيا، الذين عرضوا على 100 مشارك وجوهاً مختلفة، تم إنشاؤها بواسطة الكمبيوتر، وطلبوا منهم تسجيل المشاعر التي تعبّر عنها تلك الوجوه، وكان عليهم الاختيار بين ست فئات من المشاعر التقليدية: الفرح، المفاجأة، الخوف، الاشمئزاز، الغضب والحزن، ثم كان على المشاركين تقييم تعابير الوجوه ؛ سلبية أم إيجابية، وتحفيزها لمشاعرهم من الهدوء والرضا، إلى السعادة، أو الإثارة. ثم حدد الباحثون حركات الوجوه، مثل ارتفاع الحواجب، تجعّد الأنف وفتح الفم... والتي يمكن أن تنقل معلومات عامة، مثل الإيجابية والسلبية، وفئة محددة من المشاعر مثل الفرح والحزن.
كما حدّدوا حركات الوجه التي يمكنها أن تنقل أكثر من نوع من المعلومات عن الأشخاص، فعلى سبيل المثال، ينقل الحاجب المرفوع نوعين من المعلومات في الوقت ذاته، كالسّلبية والحزن.
وقد تبين للباحثين، من خلال الرسوم البيانية الحديثة، أن تعابير الوجه عبارة عن حركات فردية تراوح من إغلاق العينين، إلى خفض الفك.
وجوه لا تحكي
قد نضطر أحياناً للتعامل مع أشخاص لا يملكون تعابير في وجوههم، فنشعر أثناء التواصل معهم أننا نتكلم مع جماد، وليس مع بشر.
تقول إحدى الزوجات «أعيش مع زوجي منذ 17 عاماً، ولم أشعر يوماً بأنه يرسم على وجهه أيّ رد فعل يجعلني أعرف ما يشعر به، فكل المواقف التي نمر بها، من فرح أو حزن، من غضب وانفعال، ليس لها انعكاس على وجهه، وفي كل تعامل، أو حديث يدور بيننا أضطر لأن أسأله ما إذا كان قد سمع كلامي، أم لا، وحين أكرر التصرف، أو القول، يلقي كلمات جارحة ببرود، من دون أي تعبير».
ثمة الكثير من المواقف التي نمرّ بها في حياتنا اليومية، تترك لدينا انطباعاً بأن الأشخاص الذين نتعامل معهم لم يعجبهم قولنا، أو أفعالنا، فنعيش في حالة من التساؤل ونلوم أنفسنا على الخطأ الذي نكون قد ارتكبناه.
علاقة تعابير الوجه بالتوحد
ثمّة شكل من أشكال طيف التوحد يكبر مع الإنسان، ويعطيه خصائص معيّنة من دون أن يؤثر ذلك كثيراً في حياته الاجتماعية، وقد لا يلفت إليه الأنظار.
وهناك دراسات تفيد بأن الأشخاص المصابين بالتوحد البسيط لا يملكون القدرة على التعبير عن انفعالاتهم بشكل عفوي، كما أنهم غير قادرين على فهم تعابير وجوه الآخرين بسرعة، وقد يقلدون نظراتهم، أو يستخدمون تعابير وجوههم لتسهيل التبادل.
مع ذلك، يلاحظ الباحثون أن الأشخاص المصابين بهذا النوع من التوحد يبتسمون كثيراً، كما يتجهمون بقدر ما يبتسمون. وقد تظهر عليهم ردود أفعال وجهية بسرعة عند تعرضهم لمحفزات حسية، مثل الروائح النفاذة.
تعابير وجوه الروبوتات البشرية
من أين اقتبس مصنّعو الروبوتات البشرية ملامح الوجه؟ ولمَ تسمى الإيموجي التي نتواصل بها في وسائل التواصل الاجتماعي وجوهاً تعبيرية؟ وهل صار الرسم والروبوت أبلغ من بعض البشر في التعبير عن مشاعر ينتظرها الناس ليتفاعلوا معها، ويبنوا آراءهم على أساسها؟
لقد استطاع مطوّرو الروبوتات البشرية في الأعوام الأخيرة، صناعة روبوتات «عاطفية»، تحمل تعابير وجهية وتتفاعل مع مشاعر الأشخاص الذين يتواصلون معها، فالروبوت «إيمو» مثلا، يستطيع أن يرسم على وجهه تعابير سريعة كردود فعل أثناء التحاور معه، وهو مزود بـ26 مشغلاً لحركات الوجه، وبكاميرات عالية الدقة في عينيه من أجل التواصل البصري.
أما الروبوت تشارلز الذي طوّره باحثون في جامعة كامبردج البريطانية، فهو قادر على تفهم مشاعر البشر من خلال قراءة تعابير وجوههم، وحركات أجسامهم، وهو يفهم نبرة الصوت، ويتفاعل معها، إما فرحاً، وإما حزناً.
وهناك الكثير من الأمثلة عن الروبوتات العاطفية التي بدأت تحتل مكانتها في عالم الذكاء العاطفي، ويؤكد مصنّعوها أنها لا تملك أيّ مشاعر، إنما يمكنها من خلال قاعدة بياناتها التفاعل مع البشر، وتسليتهم، وانتشالهم من سلبيات الوحدة العاطفية.