03 أكتوبر 2024

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب "كازا فرانكا" وانسَ أنك في باريس

كاتبة صحافية

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

في قلب حارة شعبية من حارات باريس، وفي منطقة يختلط فيها المهاجرون من كل الأعراق، اختارت هذه المرأة الأنيقة أن تبني بيتاً من خشب وأن تسمّيه «كازا فرنسا»، أي قصر فرانكا باللغة الإسبانية.. وفرانكا هي جدتها التي كانت متعلقة بها.

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

ويزداد الأمر تشويقاً وأنت ذاهب لزيارة سارة فالانت، فالزقاق المؤدي إلى قصرها مغلق من نهايته، يتورط بدخوله سائقو السيارات، إن صاحبة البيت فنانة تشكيلية ذات ذوق رفيع، وهي أرادت أن يكون بيتها متعة للبصر وواحة لاستراحة النفوس، وقبل هذه وذاك نموذجاً لاحترام البيئة.

في الحمام
في الحمام

هناك مثل يقول: إن شجرة يمكن أن تخفي وراءها غابة، والحقيقة أن «كازا فرانكا» هو تلك الشجرة التي تقودك إلى غابة من الجمال البصري والروحي، إنه أول منزل في باريس يتم تشييده من الطين، على طريقة المهندس المعماري المصري الشهير حسن فتحي..

والسبب في وصف المكان بالغابة هو تلك الحيوانات الأسطورية والشجيرات والأزهار والطيور والحشرات التي تنتشر في أرجائه وعلى حيطانه وفوق رفوف مطبخه، وكلها من رسم ونحت وتلوين فنانين معروفين من زملاء صاحبة الدار.

سارة فالانت جمعت في بيتها الفن والبيئة
سارة فالانت جمعت في بيتها الفن والبيئة

من تكون سارة فالانت؟

هي فنانة لم تدخل معهداً ولا أكاديمية للفن بل علّمت نفسها بنفسها، نشأت في أطراف باريس لأب من أصل إيطالي ووالدة أوكرانية، وهي تفهم التصميم الفني على أنه نوعٌ من المقاولة التي تجمع مفردات الجمال وتنسقها في باقة واحدة..

وتقول: «جئت من عائلة بنائين، أي أسطوات ومعلمي معمار، وقد هاجر جدي من مسقط رأسه في إيطاليا إلى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، طلباً للرزق، وكان عاملاً ماهراً في تقطيع الرخام، أما أبي فقد اشتغل في تجديد المباني بحيث تصبح مقتصدة في استهلاك الطاقة..

ومنذ صغري كنت أرى والديّ يشتريان بيوتاً مهدمة لكي يعيدا ترميمها وجعلها صالحة للسكن، كانا مغامرين لا يخشيان الخسارة لأنهما حملا في داخلهما تلك الشعلة القادرة على بناء شيء من لاشيء».

عند الدرج عمل للفنان تيو ميرسييه
عند الدرج عمل للفنان تيو ميرسييه

في مغسلة الحمّام
في مغسلة الحمّام

واجهة بيت من طين

ذات يوم، قبل 6 أعوام، عثرت سارة على خرابة في قطعة أرض صغيرة قاحلة معروضة للبيع، وفي الحال وجدت أن تلك هي فرصتها الذهبية ولم تتردد في شرائها، فهي كانت تبحث منذ زمن عن مكان يصلح للسكن وللعمل في الوقت نفسه، بيت تستطيع فيه أن تحلم بمشاريع تكبر بالتدريج، فهي كانت قد تركت الدراسة بعد الثانوية العامة وتفرغت للتفكير في مستقبل مثمر..

كانت الأرض القاحلة مناسبة لأحلامها خصوصاً وأنها كانت قد اقتصدت ووضعت جانباً مبلغاً من المال، لهذا لم تتردد في اقتناء المكان، لكن الأمر استغرق 3 سنوات لكي تبدأ ورشة العمل والبناء، فهي قد تصورت في البداية أن في إمكانها ترميم الخرابة، لكنها اكتشفت أن الحطام لا يصلح لشيء ولابد من هدمه وتسوية الأرض وتعميرها مجدداً.

أرادت أن تثبت لنفسها وللآخرين أن من الممكن بناء منزل جميل وفي الوقت نفسه صديق للبيئة، وهو قد يكون نموذجاً يُحتذى به وبارقة أمل للمستقبل.

تم تشييد الواجهة من الطين غير المفخور، وهي تقنية تقلل من التلوث أكثر بكثير من البناء بالخرسانة أو الأسمنت، أما الهيكل فقد صممته من الخشب، وتم تزويد البيت بنظام يسمح بتجميع ماء المطر واستخدامه في السقي والغسيل لاحقاً، وكانت تتمنى لو زرعت مشتلاً فوق السطح وألواحاً للاستفادة من ضوء الشمس لكن هذه الأمور غير مرخص بها في أحياء باريس السكنية.

في المطبخ قطع فنية حقيقية
في المطبخ قطع فنية حقيقية

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

«العمارة المسؤولة» وكائنات مستوطنة

لكي تحقق حلمها بشكل جيد استعانت سارة بالمهندسين فيلبير وإيمانويل ديشليت، وهما معروفان باهتمامهما بالجانب الاقتصادي وبالمواد المبتكرة والبديلة في البناء، أي ما يسمى «العمارة المسؤولة»، وقد عكف الاثنان على ذلك الهيكل العمودي الذي تدخله الشمس من الواجهة فقط، إن الحي قديم ومزدحم والبيت محاط بمبانٍ ذات جدران ملاصقة من ثلاث جهات.

وقد رسم المهندسان طوابق البيت بحيث تحيط بفرع شجرة معمرة كانت موجودة في الوسط ثم جرى قطعها ولم يبقَ منها سوى الأثر.. لكنهما تخيّلا أنها ما زالت وارفة وتسند المنزل وتلقي بظلالها في أرجائه، ليس في المكان قطط سيامية ولا حيوانات أو نباتات مستودرة من بلاد بعيدة، كل ما فيه مستوطن في بيئة فرنسا وعاصمتها بالتحديد..

وهذا يشمل الأزهار والعصافير والفراشات والشجيرات التي تتوزع في البيت الذي تحول إلى فيلَّا صغيرة، ويحتاج الزائر وقتاً لكي يفرِّق ما بين الكائنات الحقيقية أو المشغولة فنياً.

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

مسيرة ملتزمة لرعاية البيئة

تقول ربة المنزل: «أردت أن تكون كازا فرانكا مكاناً يستلهم الأسفار بحيث ننسى أننا في باريس، وهو مسكن يجمع كل نشاطاتي الشخصية والمهنية، أعيش فيه وأنجز أعمالي وأعرضها على المهتمين، ومنها مجموعة الصور التي التقطتها في غابات الأمازون وأعدت رسمها بأصباغ الأكواريل..

كما أن البيت مفتوح لاستقبال فنانين للإقامة والعمل، وهو أيضاً مقر جمعية الخط الأخضر التي أسستها قبل 3 سنوات لتقديم منحة فنية تهدف للتوعية بمشكلات البيئة من خلال الفن، ومنها كيفية الحفاظ على الغابات والدعوة لأساليب عيش تراعي البيئة، إن هذا المكان منذور للطبيعة»، ولتحقيق بقية حلمها دعت سارة كل أصدقائها الفنانين للمساهمة في تزيين البيت بأعمالهم، وهم قد لبوا النداء.

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

فن مزدهر و«فردوس استوائي»

اعتدنا استخدام لفظة مزدهر للتعبير عن التطور والانتشار، لكن في هذا البيت فإن المفردة تأخذ معناها الحرفي لأن هناك أزهاراً في كل مكان، سواء أكانت حقيقية أو مرسومة، ومنذ اجتياز العتبة تطالعك جداريات ومناضد وأرفف ومنحوتات تتداخل فيها ألوان النباتات بشكل أخاذ، وحتى الأرضيات في الصالون والمطبخ والحمّام هي قطع فنية تتغير ألوان إضاءتها بحسب النهار والليل..

وقد تولَّى متخصصون في الديكور تأثيث الحجرتين في الطابق العلوي والمخصصتين لاستقبال الضيوف المقيمين في إقامات فنية، وكل حجرة هي بمثابة جناح صغير وحميم، وله حمّامه الخاص، ويلفت النظر ضفدع من السيراميك بتوقيع الفنان سيريل دوبون، وطائر بتوقيع الفنانة لو روس..

وهناك أيضاً فضاء مفتوح يمكن استخدامه لحصص «اليوغا» أو لعرض الأفلام، وهو مفروش بسجادة يدوية من صنع لويس بارتليمي عنوانها «الفردوس الاستوائي»، في تحية للصناعة اليدوية في بولينيزيا، إن التجوال في المنزل هو جولة مستمرة في معرض ساحر عرفت صاحبته كيف تنتقي مفرداته بمنتهى الذوق.

المنزل من خشب وطين والأثاث تحف فنية.. اطرق باب

أعمال بهيجة تتماشى مع الحياة اليومية

في الطابق الأرضي هناك صالون للاستقبال وللاجتماعات، ومنه يمتد المطبخ الذي يحتوي على مشغل للعمل ومقاعد بدون ظهر وكل منها قطعة فنية باهرة صممتها إيمانويل دوشيليت على شكل تويجات ورد مضموم ونفذها فكتور روسي، إن الفن هنا يترافق مع المعيشة اليومية، وهو بهيج ومفيد وصديق للبيئة..

وهي فرصة لتأمل منحوتة للفنان بول كريانج تضيء منضدة العمل، التي تدل على العلامة الرقمية المستخدمة للدلالة على اللانهاية، وفي الوقت نفسه توحي بأنها ثعبان، أما في حجرة نوم سارة التي تحتل الطابق الأعلى فإن أول ما يلفت النظر ظهر السرير المصنوع من خشب معشق للفنان فكتور روسي..

وهو نفسه الذي أبدع الطاولة الشبيهة بعين حيوان، وتلتحق بحجرة النوم صالة استحمام ذات مغطس كبير بقاعدة من السيراميك من عمل بازيل بون وهي على شكل زورق، وبجوار المغطس تمثال لديانا «إلهة الماء» في الأساطير الإغريقية، ذات ملامح مأخوذة من فرانكا، جدة سارة.

اقرأ أيضاً: المعماري الشهير حسن فتحي وقصر ألفا بيانكا بإسبانيا