25 يناير 2021

أماكن ألهمت وأمرضت رائدة الكتابة النسوية "فيرجينيا وولف"

رئيس قسم المحتوى الإلكتروني في مجلة كل الأسرة

أماكن ألهمت وأمرضت رائدة الكتابة النسوية

كان حي " بلومزبري" الراقي في عام 1910 يعج بالمفكرين والمثقفين الذين جاؤوا من كل أرجاء لندن متأملين لقاء أحد عمالقة الأدب والفن و للاستمتاع بسحر هذا الحي الذي أثر بشكل جوهري في مصير و نشأة مجموعة منهم ، هناك اجتمع العمالقة في حلقة " بلومزبري" الأدبية الشهيرة لمناقشة أمور الثقافة والسياسة والحياة ، وبينهم الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف رائدة "الكتابة النسوية"، ولو استرجعنا اللحظة بمخيلتنا سنراها تختطف الحديث مدافعة عن حقوق النساء، تجادل وتحاور وتتفق وتختلف مع جورج بارنرد شو و توماس هاردي وت. س. إليوت ودنكان جرانت وفانيسا بيلو وغيرهم من الأدباء والمفكرين.

أماكن ألهمت وأمرضت رائدة الكتابة النسوية

كانت حينها تكتب في صحيفة الجارديان اللندنية عن حقوق المرأة المهدرة وتحاول جاهدة مقاومة اكتئابها العميق بالإبداع وبالحب، ومن بين محاولاتها للسيطرة على الهواجس التي كانت تطاردها، انتقلت فيرجينيا وولف إلى دار "بيرلي هاوس" في منطقة تويكنهام نهاية عام 1910 وحتى عام 1913. 

ويقال إن المسكن هو دار رعاية (غير رسمي) للنساء المضطربات نفسيًا لكنه يتمتع بمساحات خضراء شاسعة يمكن للنزيل التجول فيها بحرية و إطلاق عنان الإبداع دون قيود، وخلال هذه الفترة أيضًا و بالتحديد عام 1912 تزوجت فرجينيا من الكاتب ليونارد وولف ظانة أن الحب وحده كافٍ لمواجهة هذا المرض النفسي اللعين غير المفهوم للأطباء النفسيين حينها.

لمحة عن مرضها 

لمحة عن مرضها

بحسب استنتاجات المحللين النفسيين اليوم، كانت فيرجينيا تعاني مرض ( اضطراب ثنائي القطب) ، وقد أصيبت به بسبب تعرضها للتحرش الجنسي من إخوانها غير الأشقاء لتسع سنوات مستمرة، بيد أن بعض الباحثين النفسيين أشاروا أيضًا إلى وجود علاقة بين موهبتها الفذة ومرضها النفسي

لم يكن هذا الاستنتاج غائبًا عن فرجينيا وهي المعروفة بحبها لتحليل وتأمل المشاعر والأحاسيس الإنسانية، بل كانت مؤمنة أن المرض النفسي نتيجة طبيعية لأي امرأة مبدعة في عصر يضطهد المرأة ويقلل من شأنها ، لهذا قالت في كتابها الشهير" غرفة تخص المرء وحده" الذي ترجمته بتصرف سُمية رمضان "ما هو حقيقي، أو هكذا تراءى لي وأنا أستعيد حكاية أخت شكسبير كما ألفتها، هو أن أي امرأة ولدت في القرن السادس عشر وكانت لها موهبة عظيمة لابد أنها فقدت عقلها أو رمت نفسها بالرصاص أو أنهت حياتها في كوخ وحيد خارج القرية، نصف ساحرة، يخاف الناس ويسخرون منها".

كانت نهاية الإبداع قاتمة بالنسبة لفيرجينيا ، تعكس تخيلاتها وتصوراتها عن مستقبلها الذي جاء مطابقًا لتوقعاتها. كانت مصرة في كتاباتها على أن الهلوسات تنتصر دائمًا على النفس، حتى في روايتها الشهيرة "السيدة دالاوي"، تحدثت عن نفسية جندي عائد من الحرب العالمية الأولى يعاني اضطرابات ما بعد الصدمة، وهلوسات متكررة تخصّ صديقه الذي تُوفي في الحرب، لم تنقذه فيرجينيا وهي تنسج خيوط الرواية بل تركته أسيرًا للمرض لينتحر في النهاية " وكأنها بهذه الصورة تؤكد أن الانتحار هو النهاية المنتظرة لمرضها النفسي.

منزل هوغارث في ريتشموند

منزل هوغارث في ريتشموند

نعود إلى عام 1915, من يقرأ لفيرجينيا يعلم جيدًا كيف استمدت إلهامها من الطبيعة حولها، فنجد بعض فقراتها تبدأ بـ"وأنا جالسة على ضفاف النهر" أو" كنت أتأمل من النافذة" ، لهذا كان بديهيًا أن تنتقل إلى منزل " هوغارث" في ريتشموند، حيث المناظر الطبيعية والهواء النقي لتعيش هناك وتؤسس عام 1917 مع زوجها مطبعة "هوغارث" والتي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا ضمن مجموعة كراون للنشر. 

ساحة تافيستوك، بلومزبري

ساحة تافيستوك، بلومزبري

أسرتها الحياة في ريتشموند فعاشت هناك لعقد من الزمن، لكن حين شعرت أن الروتين قد يخْمِد لوعة الإبداع، انتقلت إلى المدينة في عام 1924، إلى ساحة تافيستوك بالتحديد، بحثًا عن إلهام جديد في منطقة صاخبة، مليئة بالحياة والقصص الحقيقية وبـ" مطاردات الشوارع" على حسب قولها.

وقد وجدته، الإلهام، في وجوه الناس، راقبتهم وهم يأكلون ويعبرون الشوارع ويتحدثون ويتفاعلون. فجاءت شخصيات رواياتها انعكاسًا فيما تراه في الناس و استمدت كذلك الإلهام من جمال معالم "تافيستوك" وظهر ذلك جليًا في رواية "السيدة دالاوي"، وكذلك في رواية " إلى المنارة".

لكن في عام 1940 ونتيجة غارة جوية احترق منزلها بالكامل و لم يعد له أثراً و احتل مكانه فندق "تافيستوك" الذي يقبع أمامه تمثالها البرونزي شاهدًا على حياتها هناك. 

الكوخ الريفي في حديقة مونك في مقاطعة شرق ساسكس

الكوخ الريفي في حديقة مونك في مقاطعة شرق ساسكس

بعدما احترق منزلهما، انتقلت فرجينيا وزوجها إلى كوخهما الريفي في حديقة مونك في إنجلترا عام 1941، لتبدأ فيرجينيا فصلها الأشرس مع الاكتئاب، إذ ساء المرضي النفسي مع تداعيات الحرب العالمية الثانية عليها، وساهمت عزلتها في انهزامها و استسلامها التام لفيض الأفكار السامة الانتحارية، فكتبت نهايتها بنفسها كما توقعتها ورسمتها في خيالها منذ سنوات ..أغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها، هكذا أرادت أن تختتم رواية حياتها، منظر صامت لنهر جار وحياة مفعمة بالإبداع مثقلة " بالأحجار" راقدة في قعر النهر ، لتعلن نهاية حرب غير عادلة بينها وبين الاكتئاب.

اقرأ أيضا: هل يؤدي الإبداع الزائد إلى المرض النفسي