08 يونيو 2023

واسيني الأعرج: "عازفة البيكاديللي" يرمم ذاكرة القارئ وجنون الرواية هو خياري الأنسب

محررة في مجلة كل الأسرة

واسيني الأعرج:

"نعم نكتب لأننا نريد من الجرح أن يظل حياً ومفتوحاً...نكتب لأن الكائن الذي نحب ترك العتبة وخرج ونحن لم نقل له بعد ما كنا نشتهي قوله.. نكتب بكل بساطة لأننا لا نعرف كيف نكره الآخرين، ولربما لأننا لا نعرف أن نقول شيئا آخر."هذه العبارة للروائي الجزائري واسيني الأعرج من كتابه «طوق الياسمين» ترجمها بالفعل عبر آخر إصداراته «عازفة البيكاديللي» حيث كتب عن الجرح المفتوح وعن حريق مسرح «قصر البيكاديللي» في شارع الحمراء والذي شكل ذاكرة بيروت وذاكرة ناسها ومرتاديها واستقطب، في أيام عزه، قامات فنية وثقافية ومنها السيدة فيروز، الفنان عمر الشريف في «الدكتور جيفاغو» و«باليه البولشوي»، وغيرها من أنشطة ذات جودة فنية عالية.

في كتابه "عازفة البيكاديللي" يقبض واسيني الأعرج على حيوات شخصيات روايته ويسرد حكاياتها ويعيدنا إلى أروقة المسرح العريق وإلى بيروت، تلك المدينة التي تمرض ولا تموت:

واسيني الأعرج:

لنبدأ مع عازفة البيكاديلي، كتابك الذي صدر مؤخراً. وبعد أن زرت المسرح في بيروت، هل احتراق «البيكاديللي» المادي يمكن أن يقتل الذاكرة؟ وهل يمكن للأدب أن يرمم الذاكرة؟

بالطبع، يمكن أن نرمم الأمكنة بسهولة في حال كانت هناك إرادة، وهذا هو الترميم المادي. بيد أن ترميم الذاكرة جداً صعب لأنه يراد له أشخاص واعون بأن هذه الأمكنة أو هذه المساحات تحتاج إلى ترميمها لغوياً بالدرجة الأولى بحيث تستقي هذا التاريخ وتشتغل عليه وتبعثه إلى قرائه، وبالأخص أن القارئ الذي لا يعرف بوجود مثل هذه الأماكن كمسرح البيكاديللي سيعرفه من خلال الرواية ويعرف تاريخه ويعرف حتى الزمن والبشر الذين كانوا يملأون هذا المكان.

واسيني الأعرج:

لكن هذا ليس الأهم لكون ترميم الذاكرة لا يتم فقط عن طريق الرواية. فالرواية قد تكون إثارة بسيطة بالنسبة للقارئ حيث هو نفسه يذهب ليرى المكان، وهو ما حدث معي فعلاً في بيروت عندما وقعت الكتاب في مسرح البيكاديللي نفسه، كان الكثير من القراء يأتون وبعضهم يحدثني أنه لم يكن يعرف تاريخ هذا المكان وكل ما يحيط به من جماليات، كما دفعت الرغبة بعض من قرأ الرواية لزيارة هذا المكان. فالترميم هنا لا يعود ترميماً ثقافياً، بل ترميم ذاكرة القارئ نفسه الذي يشعر بثمة فراغ ولا يدرك أن الثقافة التي تلقاها لم تكن كافية لكي توضح له أبعاد هذا المكان، وعن طريق الرواية يذهب ويبحث ويكتشف أبعاداً قد لا يكتشفها الكاتب نفسه في هذه الأمكنة.

واسيني الأعرج:

بين الروائي والأستاذ الأكاديمي في الجامعة الجزائرية والسوربون، هناك مسافة يعانيها الكاتب بين النظريات والعمل الإبداعي.. في أيهما تصنف نفسك أولاً، وهل يتكامل المساران أم يتجادلان؟

في لحظة من اللحظات، لا نستطيع أن نركض بنفس القوة في مجالين. فأنت أعرف الناس بنفسك، إما أن تأخذ مسار الرواية أو تأخذ مسار البحث الأكاديمي. كان لدي فرق علمية وخيارات نقدية وثقافية كنت أسير بها، وكان الخيار الأكاديمي موجوداً كجزء من قناعاتي، ولكن مع مرور الزمن اكتشفت أنه خيار غير موصل رغم أنه مهم أكاديمياً. فما موجود داخلي أو ما يعتمل داخلي هو أقرب إلى الحرية أو إلى جنون الرواية، لأن الرواية هي فعل حر بشكل مطلق بينما العمل الأكاديمي هو عمل مسطر منهجياً ثقافياً ولغوياً بحيث يصبح من الصعب أن تجمع بين ما هو منضبط أكاديمياً وبين ما هو حر إبداعياً. من هذا المنطلق، كان علي الاختيار في لحظة من اللحظات وأنا اخترت الرواية وأوقفت العمل الأكاديمي إلا في الجامعة، أدرس وأعمل وأتواصل مع طلبتي وأحاضر في جامعة السوربون في فرنسا بعد الجزائر وكان هذا العمل الأساسي ولم أعد أنتمي إلى مجموعات نقدية أو إعداد فرق بحث علمي واكتفيت بما هو إبداعي، وحسناً فعلت لأن القارئ عرفني بعدها كروائي. الجانب النقدي والأكاديمي موجود ولكن بالنسبة لي، ليس هو العلامة الأساسية كفرد وكنت أحاول سابقاً التوفيق بين المسارين، ومع الزمن لم أعد مبالياً بتحقيق التوازن لأن الخط الإبداعي يهمني أكثر من الخط الثاني.

واسيني الأعرج:

معروف أن لك خصوصيتك الروائية في الكتابة من خلال الاشتغال على اللغة وتجديدها على خلاف الجيل السابق عليك الذين يكتبون بالفرنسية أيضاً.. حدثنا عن ذلك.

على صعيد الجزائر، هناك لغتان: اللغة الفرنسية واللغة العربية، لكن ثمة جيلاً أو أجيالاً كتبت باللغة الفرنسية وقد كتبوا عن الجزائر، وهم جزائريون ارتبطوا بالوطن ارتباطاً وثيقاً وحيوياً وهناك من كتب باللغة العربية أيضاً وهم من أجيال مختلفة، أجيال ما قبل الثورة والثورة والاستقلال الوطني ولكن كل هذا لا يكفي ولا يصنع تمايزاً في الأدب. من ضمن الجيل الذي كتب باللغة الفرنسية، هناك كتاب تميزوا بنصوصهم الجيدة سواء بالنسبة للجيل الأول أو اللاحق، وهو ما ينسحب على الجيل الذي انتهج الكتابة باللغة العربية.

أقول أن المشكلة اللغوية لم تعد مطروحة بالنسبة للمسألة الإبداعية وليس على صعيد الخيارات السياسية التي تطرح تأييد اللغة العربية أو لا، وهذا نقاش آخر، ولكن في المجال الإبداعي أصبح المقياس الأساسي هو قيمة النص. فمن يكتب باللغة الفرنسية تترجم أعماله، وإذا كان جيداً سيجد نفسه عند النخبة الفرنكوفونية وعند النخبة العربية، والشئ نفسه ينسحب على من يكتب باللغة العربية ويترجم باللغة الفرنسية لجودة أعماله ويجد قراءه في المجال اللغوي الفرنكوفوني. في نهاية المطاف، أصبحت القيمة خارج اللغة والقيمة الإبداعية هي المحدد الأساسي لقيمة النص.

واسيني الأعرج:

حرصك على الكتابة وفق التقاليد العربية الراسخة في مثل روايتك (الليلة السابعة بعد الألف).. ألا ترى أنها لا تحاول اللحاق بالحداثة أو التمسك بنظريات التطور الأدبي؟

لا، فهي تنطلق من فكرة واضحة، من فكرة حداثية وحتى ما بعد الحداثة. فعندما تعيد قراءة الميراث الثقافي العربي، ستجد في هذا الميراث نصوصاً عربية عظيمة مثل ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، رسالة الغفران لأبي العلاء المعري وكتب الرحلات والسير مثل سيرة بني هلال، كلها عبارة عن نظم سردية راقية جدا وصلت إلى درجة من العبقرية في السرد ونحن أهملناها، وبالتالي عندما تعود إلى هذه الأعمال، تعود لها لأن لها قيمة خالدة، قيمة حداثية والمثال في نظم البناء، في الثقافة والأفكار وفي التيمات حيث ما تزال تيمة الحب تيمة أساسية وتيمة الصراع موجودة وكذلك تيمة الجريمة السياسية وتيمة الصراعات القبلية. داخل السيرة الهلالية، نتفاجأ بالصراعات القائمة وحدود الانفصال حيث كل مجموعة تذهب بمفردها كأننا في العالم العربي اليوم في وقتنا الراهن. ففي الحقيقة، هذا فعل ما بعد الحداثة أي ينتقد الماضي وينتقد الحاضر بمختلف سبله.

الكتابة داخل هذا النسق تعطي نوعا من الاستمرارية للتاريخ السردي العربي ولا تنفصل عنه، نحن نعيش حالة انفصال، وللأسف الروايات التي نكتبها هي في دائرة النخب القارئة والمتعلمة ولكنها ليست في صميم الروح الشعبية. فعند تناول سيرة بني هلال أو سيرة عنترة أو الظاهر بيبرس أو سيرة سيف بن ذي يزن أو رحلة بن جبير، ستجد أن هذه النصوص هي جزء من الوجدان العربي القديم لأنها نابعة منه. لم نستطع أن نخلق الوشائج بيننا وبين هذا الميراث.ب العكس.نحن داخل الحداثة وما بعد الحداثة بامتياز.

الآباء من دون ثقافة نفسية وثقافية لن يستطيعوا اللحاق بأبنائهم تكنولوجياً ومواكبة تحديات العصر الراهن

ككاتب وأكاديمي، هل ما زال الأدب حاضراً في مجال الأسرة والتوجيه الاجتماعي أم أن دوره تهمش في ظل الحضور المهيمن لوسائل التواصل الاجتماعي؟

نحن نعرف جميعاً، كآباء وأبناء، أن الأسرة العربية تعاني مشكلة طبيعية تحتم على الآباء أن يلتحقوا ويفهوا أبناءهم عبر الاندماج في الوسائط الحديثة والقدرة على فهمها وتوجيهها لأنها وسائط مفيدة لكن في الوقت نفسه، ليست (أي الوسائط) بريئة كونها يمكن أن تؤدي إلى الانحراف، وبالتالي إلى الخروج من دوائر ثقافية إلى دوائر أكثر تعقيداً وكل شيء محتمل، وبالتالي، عندما يكون الفعل الأسري منصباً على هذا التوجه الإيجابي وتعطى القيمة للعائلة وللأبناء، سنجد أنفسنا أمام عائلة منسجمة تتحاور وتتبادل النقاشات، وهذه تحديات وليس أمراً سهلاً كون الأمر يحتاج إلى قوة نفسية وثقافية عند الآباء لأن الآباء من دون قوة ثقافية لا يستطيعون فهم أبنائهم، وأبناء خارج مدار الثقافة الإنسانية والثقافة الأسرية لن يتمكنوا من التواصل مع أسرهم. نعترف أن لهؤلاء الأبناء الحق في حريتهم وفي عصرهم، ولكن في الوقت نفسه هذا العصر ليس بريئاً بالكامل لخوض غماره بمفردهم.