لا تمرّ فترة إلّا ونقرأ، أو نسمع عن جريمة قتل في محيط الأسرة، فهذه زوجة تخلّت عن مشاعر المودة والرحمة التي جعلها الله أساساً للعلاقة الزوجية، وقتلت زوجها لسبب، أو لآخر..
وهذا ابن تجرّد من كل مشاعر البنوّة وأزهق روح أبيه، لمجرد خلاف معه، أو تصرف من الأب يعبّر عن خوفه على ابنه.. وتتعدد الأسباب والنتيجة واحدة، وهي كراهية الزوجة لزوجها، وتحوّلها من حبيب إلى عدو يتربّص به، وكراهية الابن لأبيه وتربّصه به، فهل هذه المشكلات والأزمات الأسرية طبيعية؟
القرآن الكريم أوضح لنا أن عداوة الزوجة لزوجها، والابن لأبيه، موجودة في واقع الحياة، وحذّر من نتائج هذه العداوة، فقال الحق سبحانه في سورة التغابن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أزواجكُمْ وَأولادكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
هل يمكن أن تتحول الزوجة، أو الابن، إلى عدو؟
يقول العالم الأزهري د.نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق «الإسلام رسم صورة مثالية للعلاقات الأسرية لكي تظل دائماً في دائرة المودة، والرحمة، والتعاون، والتآلف، وتغلّفها المشاعر الإنسانية الراقية، فالعلاقة بين الزوجين رسمتها آية قرآنية كريمة يقول فيها الله سبحانه وتعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة»، وفي ظلّ التزام كل من الزوجين بما تمليه عليه تعاليم الإسلام من مشاعر فياضة، ومودة دائمة، والوفاء بالحقوق الزوجية المتبادلة، لا يمكن أن تتحول المحبة لعداء، لكن من طبيعة البشر التمرّد، والعصيان، والجحود.
وهنا يتحول الحبيب إلى عدو، لأنه سلّم نفسه لشياطين الجن والإنس، فالزوجة قد تلعب صديقة أو قريبة لها بعقلها وتحرّضها على زوجها، والابن قد يلتقي بشيطان من شياطين الإنس فيحرّضه على أبيه؛ فتموت بداخله المشاعر التي تربطه بوالده، ويتحول إلى ابن عاق، يفعل كل ما يغضب والده، ويكون سبباً في تعاسته، ونكده».
القرآن الكريم أمَر في العديد من الآيات الكريمات ببِر الوالدين والإحسان إليهما، حتى ولو كانا كافرين
ويعبّر مفتي مصر الأسبق عن أسفه لشيوع الخلافات والصّراعات الأسرية في بعض البيوت، وقتل مشاعر المودة والرحمة داخل نفوس بعض الأزواج، والزوجات، ونفوس بعض الأبناء تجاه آبائهم الذين كانوا سبباً في وجودهم، وعانوا في تربيتهم والإنفاق عليهم.. ويبيّن «عداء الزوجات لأزواجهن يأخذ صوراً كثيرة، ومتفاوتة الحدّة، حتى وصلت إلى ما نراه ونقرأ عنه من جرائم قتل الأزواج التي تزداد بشاعة في عدد من مجتمعاتنا العربية.
أيضاً، نرى الآن جرائم مُنكرة من أبناء تجاه آبائهم وأمهاتهم تتدرج من العقوق إلى الإساءات اللفظية، وقد تتطور إلى العدوان البدني، حتى تصل إلى جريمة القتل، وهي أبشع الجرائم التي يرتكبها ابن ضد والديه.. وهذا يحدث في واقع حياتنا المعاصرة، مع أن القرآن الكريم أمَر في العديد من الآيات الكريمات ببِر الوالدين والإحسان إليهما، حتى ولو كانا كافرين «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً».
كيف نواجه هذه العداوات ونقضي على بواعثها قبل أن تتفاقم؟
يجيب مفتى مصر الأسبق بأن المواجهة العقلانية لمثل تلك الحالات، ينبغي:
- أن تتحلى بالحكمة والصبر.
- أن تكون بعيدة عن الانفعالات التي تجر إلى مشكلات ومصائب أكبر.
- على الأب أن يصبر على ابنه الذي يشمّ منه رائحة العقوق والتمرّد، وأن يتقرب إليه أكثر.
- أن يتخلّى عن القسوة والعنف في التعامل معه، ومثل هذه المعاملة الحانية كثيراً ما تغيّر من سلوك الابن، وتشعره بالذنب، وتدفعه إلى مراجعة نفسه، والتعامل مع والده برفق ورحمة، وهنا يكون الأب قد حقق هدفين في وقت واحد:
الأول: عالج عقوق ابنه وحوّله من العقوق إلى البِر فيسعد الأب بذلك ويحقق راحته النفسية.
الثاني: وفّر الحماية لابنه.. فلو تمادى الابن في عقوقه نتيجة قسوة الأب، أو ردة فعله العنيف، لربما ارتكب جريمة نال عليها عقاباً، رادعاً كما يحدث مع الأبناء الذين يقتلون آباءهم لأسباب تافهة، ونتيجة انفعالات وقتية، أو لغياب الحكمة عن الأب في سلوكه مع ابنه واحتواء غضبه.. وهؤلاء موجودون في واقع الحياة.
والأمر نفسه مع الزوجة المتمردة على زوجها.. لو تعامل معها الزوج بحكمة، وحاول إصلاحها بدلاً من التمادي في عقابها، وحرمانها من حقوقها الشرعية لاستطاع أن يغيّر من حالها، ويصلحها، ويكسبها بدلاً من تطليقها، أو ارتكاب جريمة ضدها، أو دفعها إلى ارتكاب جريمة.
إلى ماذا يرشدنا القرآن في حال وجود عداوة من زوجة أو ابن؟
توضح د. عفاف النجار، أستاذة التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر «القرآن الكريم حذّرنا من إهمال التعامل الحكيم مع ما يبدو لنا من عداوات من جانب الزوجات والأبناء فقال الحق سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أزواجكُمْ وَأولادكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. إِنَّمَا أموالكُمْ وَأولادكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وفي هذه الآيات الكريمة يحذّرنا الله سبحانه وتعالى، من فتنة الأزواج، والأولاد، والأموال، ويحضّنا على مراقبته وتقواه، ويحذّرنا من البخل والشّح، ويعِدنا بالأجر العظيم متى أطعناه.. فهناك من الأزواج منَ يعادين أزواجهن ويخاصمنهم، ومن الأولاد أولاد يعادون آباءهم ويعقّونهم ويسبّبون لهم الأذى، فاحذروهم».
في حياتنا المعاصرة جرائم منكرة ارتكبها أشخاص بسبب تحريض أو ضغوط من أولادهم أو زوجاتهم
وتضيف «ومع أن المفسّرين قد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات روايات منها أنها نزلت في رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم ليهاجروا، فلما أتوا رسول الله بالمدينة رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهمّوا أن يعاقبوا أولادهم وأزواجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات..
وروي أن هذه الآيات نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، فقد شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أهله وولده فنزلت. فأياً كان سبب نزولها، فإن عداوة بعض الزوجات والأولاد أمر واقع في الحياة، وفي كل المجتمعات، وعلينا أن نتعامل معها كما أرشدنا القرآن الكريم بالعفو، والصفح، مع الحرص في التعامل معهم، فقد تدفع زوجة غير ملتزمة أخلاقياً زوجها لفعل ما يغضب الله، كما قد يدفع ابن والده إلى ما يغضب الله ورسوله، وفي حياتنا المعاصرة جرائم كثيرة منكرة ارتكبها أشخاص بسبب تحريض أو ضغوط من أولادهم أو زوجاتهم.
وهذا معنى قوله سبحانه «فاحذروهم»، أي فاحذروا أن تطيعوهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينكم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن تعفوا عنهم، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه، وتصفحوا عنهم، بأن تتركوهم من دون عقاب، وتغفروا ما وقع منهم من أخطاء، فإن الله غفور رحيم».
ما المُراد بفتنة الأولاد في قوله سبحانه: «إِنَّمَا أموالكُمْ وَأولادكُمْ فِتْنَةٌ»؟
يقول مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية «فتنة الابن لأبيه تكون بصرفه عمّا يرضي الله، ورسوله، ودفعه إلى ارتكاب المحرم، أو شغله، وإلهائه عن المداومة على طاعة الله تعالى، أي أن الانشغال الزائد بالأموال والأولاد وطاعتهم، غالباً ما يؤدي إلى التقصير في طاعة الله تعالى، وإلى مخالفة أمره. فبعض الأبناء بسببهم يوقع الآباء في الإثم والشدائد الدنيوية، وغير ذلك، وفي الحديث»يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته «أي أن الإنسان قد يفعل ما يُغضب الله ورسوله تحت ضغوط من أولاده».
وقد جاء في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلّى الله عليه وسلّم من فوق المنبر فحملهما، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله إذ يقول: «إِنَّمَا أموالكُمْ وَأولادكُمْ فِتْنَةٌ»، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي، ونظرت إليهما».
منحة إلهية للأبناء البارّين
وهنا يعود د. واصل ليوضح أن عداوة الأبناء لآبائهم ليست ظاهرة عامة في مجتمعاتنا، كما أنها لا تمثل قاعدة في تعامل الأبناء مع الآباء، ولذلك جاء النص القرآني بـ«من» التبعيضية، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، فمنهم الأولاد الصالحون الذين أحسن آباؤهم تربيتهم على تعاليم الدين، وهؤلاء الأبناء الأبرار يلحقون بآبائهم في الجنة، كما وعدهم الخالق في قوله سبحانه: «... والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين. وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم».
في الآيات السابقة بيان لحال طائفة من أهل الجنة وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملاً منهم في الإيمان إثر بيان حال المتقين بصفة عامة.. فالله سبحانه وتعالى يقول: الذين آمنوا بنا حق الإيمان واتبعتهم ذريتهم في هذا الإيمان، وألحقنا بهم ذريتهم بأن جمعناهم معهم في الجنة، وما نقصنا هؤلاء المتبعين شيئاً من ثواب أعمالهم بسبب إلحاق ذريتهم بهم في الدرجة، بل جمعنا بينهم في الجنة وساوينا بينهم في العطاء – حتى ولو كان بعضهم اقل من بعض في الأعمال فضلاً منّا وكرماً.. فالله سبحانه يقر عين الآباء الصالحين برؤية أبنائهم البارّين المخلصين في الجنة..
وعن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية.. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: «إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده، فيقال: إنهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: يا ربّ إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به».
من المسؤول عن عداوات الزوجة والأولاد؟
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: ألا يمكن أن يكون الزوج أو الابن هما المسؤولان عن هذه العداوات؟
يقول د. صبري عبد الرؤوف، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر «نعم.. قد يكون الزوج هو المسؤول عن عداوة زوجته له لأنه بداية لم يحسن اختيارها وفق مقاييس الشرع، ووصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضحة: «تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين».
وقد يكون الزوج قد أهدر حقوقها في بيت الزوجية، وتعامل معها بعنف، أو قسوة، أو خسّة فغرس عداوته في نفسها، وأصبحت تكيد له، وتسعى للتخلص منه، وهناك قصص كثيرة من هذا النوع موجودة في حياتنا. فالعداوات تحدث نتيجة الخروج على منهج الله، فالحياة الزوجية التي رسم لنا الخالق معالمها تقوم على المودة والرحمة والتعاون والتكافل، وعندما تضيع كل هذه المعاني الجميلة تحدث العداوات والصراعات التي تصل إلى جرائم منكرة يندى لها جبين الإنسانية».
ويضيف «أيضاً.. هناك آباء لم يحسنوا تربية أولادهم على تعاليم الدين الصحيحة، وأهملوهم أو انشغلوا عنهم وتركوهم لأصدقاء السوء، يمارسون كل الانحرافات والتجاوزات السلوكية، وكانت المحصلة النهائية إماتة مشاعر، أو عاطفة البنوّة في نفوسهم، فتحولوا إلى أبناء عاقّين، يسعون إلى كيد آبائهم، والسعي لإلحاق الأذى النفسي أو البدني بهم.. وهذه نماذج موجودة في واقع الحياة لا ينكرها أحد».
اقرأ أيضاً:
- كيف نتجاوز الآلام النفسية لظلم الوالدين من دون عقوق؟
- نصائح وتوجيهات دينية لبِرّ الوالدين عند كِبر سنهما