الحج.. رحلة إيمانية مباركة، بشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كلّ من يحرص فيها على الصدق والإخلاص في العبادة، ويلتزم بحسن الخلق؛ بغفران ذنوب العمر كله، والعودة منها سالماً، غانماً، طاهراً من الآثام كيوم ميلاده، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه، في الحديث الشريف: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».
كيف يحافظ المسلم على ثمار رحلة الحج بعد العودة؟ وماذا ينبغي عليه أن يفعل لكي يحرص على ما اكتسبه من أجر وثواب؟ وهل ارتكاب الذنوب بعد العودة من الحج تفسد الفريضة، ويكون المسلم مطالباً بحجّ آخر يخلّصه من ذنوبه؟ وكيف يطمئن الحاج إلى أن ما أدّاه كان حجّاً مبروراً، يمحو الخطايا، ويغسل الذنوب؟
هل الحج يكفّر كل الذنوب؟
البداية مع الفقيه الأزهري د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق، حيث سألناه عن ميزان الحج كفريضة مكفّرة للذنوب، وماحية لآثار المعاصي، وهل المسلم يؤدي الفرائض لكي يتخلّص من ذنوبه فقط؟
أجاب: «العبادات المفروضة على الإنسان هي تكاليف دينية من الخالق سبحانه وتعالى، يجب الوفاء بها بشروطها، وآدابها، وأخلاقها، حيث لا يكتمل إيمان الإنسان إلا بها. وهذه العبادات، وتلك الفرائض، بجانب أنها تكاليف دينية واجبة الأداء، فهي تقوم بدور كبير في تهذيب سلوك الإنسان، واستقامته على الطريق الصحيح الذي يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة. ولذلك فالمسلم الحريص على أداء العبادات والتكاليف الدينية من صلاة، وصوم، وزكاة، وحج، وغير ذلك من الطاعات، من المفترض أنه شخص مثالي السلوك، جميل الأخلاق، يعرف حقوق الآخرين، ويفي بها، لا يكذب، ولا يغش، ولا ينافق، ولا يخون، ولا يغتاب، ولا يقترف ذنباً من الذنوب، وهذه العبادات عندما تؤدى بضوابطها وأخلاقياتها تعني أن الإنسان الذي يؤديها قد بادر بالتوبة، والله سبحانه وتعالى يقبل توبة عباده المخلصين، مهما تعاظمت عليهم الذنوب والآثام».
ويضيف «لكن لو ظلّ المسلم يرتكب الذنوب والآثام، وهو يؤدي العبادات والتكاليف الدينية، فهذا دليل على أن عباداته ليست خالصة لوجه الله، وأن الرياء يسيطر عليها، لأن ما يؤديه من عبادات تصبح طقوساً شكلية لأنها لم تحقق أهدافها السامية في حياته، ولم تلعب دوراً في تصحيح مسيرته، ووضع أقدامه على طريق الهداية».
لذلك يشدد مفتي مصر الأسبق على ضرورة أن يضبط الإنسان سلوكه، ويترجم أخلاقيات العبادات في علاقاته ومعاملاته مع الناس.. ويقول «بعض الناس نراهم يصلّون، ويصومون، ويزكّون، ويحجّون، ويعتمرون، لكنهم لا يؤدون حقوق الناس، ولا يحفظون ألسنتهم عن الخوض في الأعراض، ولا يكفّون عيونهم عن تتبع العورات، ولا يطّهرون قلوبهم من الحقد، والحسد، ولا يحفظون بطونهم من أكل الحرام.. وهؤلاء ليس لهم من ثمار العبادات التي أدوها نصيب».
متى يعرف الحاج أن حجّه مبرور؟
سألنا مفتي مصر د. شوقي علام: هل كل من أدى الحج وعاد من رحلته المباركة يطمئن إلى أن حجّه مبرور، وخلّصه من ذنوبه وآثامه، انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»؟
أجاب: «الله سبحانه وتعالى فتح باب الأمل لكل عباده لتطهيرهم من ذنوبهم، وتخليصهم من خطاياهم، وتجاوزاتهم السلوكية، والحج وسيلة من الوسائل التي تطهّر الإنسان من ذنوبه، ويجب أن يثق المسلم بعفو ربّه، ورحمته، فهو سبحانه القائل: «وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى»، وهو سبحانه يغفر ذنوب من تاب مخلصاً، وردّ المظالم لأصحابها، وثبت على توبته وعمل الصالحات، والحج فريضة تساعد الإنسان على هذه التوبة الصادقة، وعندما يحج المسلم، ويحرص على آداب وأخلاقيات الفريضة، فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يضايق رفاقه، ولا يشغل نفسه ومن معه بجدل عقيم، أو بالغيبة والنميمة، وغيرها من الخصال التي لا تتفق مع أخلاقيات الفريضة، يغفر الله له ذنوبه، ويخلّصه من آثامه.. وهذه ثمرة طيبة من ثمار الحج الذي أداه المسلم بصدق وعزيمة، لأن من أهداف هذه العبادة تطهير المسلم من ذنوبه، وتخليصه من معاصيه».
الذنوب صنفان
وهنا يوضح مفتي مصر أن الذنوب التي يرتكبها الإنسان صنفان:
- الصنف الأول: ذنوب تتعلق بحقوق الله، وهي تشمل التفريط في الفرائض، أو ارتكاب المعاصي، وهذه يغفرها الله بمجرد التوبة الصادقة، لأنه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته وعد عباده بذلك في أكثر من آية في القرآن الكريم، ومنها قوله سبحانه: «وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون»، ثم يعلمهم أن هذه التوبة يجب أن تكون توبة خالصة سمّاها سبحانه «نصوحا» فيقول لهم: «يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا»، ثم يحدد لهم شروط قبول تلك التوبة في آية معجزة شملت ما شرحه علماؤنا في مصنفات كثيرة، حيث يقول سبحانه: «وإني لغفّار لمن تابَ وآمنَ وعملَ صالحاً ثم اهتدى»، فالتوبة إذن، لا بدّ أن يتبعها إيمان يقيني، ثم عمل صالح يداوم عليه صاحبه، ثم هداية دائمة مستمرة.
- أما الصنف الثاني: فهي معاصي وذنوب تتعلق بحقوق للعباد؛ كمن يأكل مال إنسان، أو يستولي على أرضه، أو حقّه في الميراث، أو يأكل مال اليتيم، أو يسرق جهة عمله، وهذه المعاصي وأشباهها، مما يتعلق بحقوق العباد تتوقف التوبة فيها على ردّ الحقوق لأصحابها، ولو تعذر ذلك لسبب من الأسباب، فعلى المسلم أن ينفقها في وجوه الخير، وهو لن يحصل من وراء ذلك على أجر وثواب، ولكن سيبرئ ذمته منها.
لذلك ينصح مفتي مصر كل الحجاج أن يخلّصوا ذمتهم من كل ما علق بها من حقوق العباد، وأن يسترضوا من ظلموهم، ويطلبون منهم العفو، إن وجدوا، فهذه من لوازم الحج المبرور الذي يعود الإنسان بعده مطمئناً أن الله قبِله، وطهّره من ذنوبه، وآثامه.
الحج صحيح.. ولكن
كثير من الناس يعتقدون أن علاقتهم بدينهم تتوقف عند أداء العبادات، فنراهم يصلّون، ويصومون، ويحجّون، ويعتمرون، ثم يرتكبون الذنوب والمعاصي.. بماذا تنصحونهم؟
يعود د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ليجيب «هؤلاء مخطئون، ولا يفهمون دينهم فهماً صحيحاً، فالعبادات التي أداها هؤلاء ليست كل الإسلام، كما أنهم أدّوها طقوساً شكلية بلا روح، ولذلك ننصح هؤلاء بـمراجعة النفس، وتصحيح مفاهيمهم الخاطئة، وأداء العبادات بضوابطها وأخلاقياتها لكي تترك آثاراً طيبة في نفوسهم».
ويواصل «الذين يؤدّون العبادات وينتهكون حرمات الله، ويتعاملون مع خلق الله بعيداً عن قواعد الحلال والحرام.. هؤلاء سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ«المفلسون» حين قال لأصحابه كما ورد في الحديث الصحيح: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار..».
لذلك ينصح عالم الفتوى الأزهري هؤلاء الذين يظنون أن الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وغيرها من العبادات ستوصلهم إلى رضا الله عز وجل، من دون مراعاة حقوق العباد بالتخلص من هذا الاعتقاد الخاطئ، وفهم الإسلام فهماً صحيحاً، ويذكّرهم بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن دخول امرأة النار بسبب ظلم هرّة، والتعامل معها بقسوة، حيث حبستها ولم تطعمها، ولم تطلق سراحها لكي تلتقط رزقها من خشاش الأرض.. وهكذا يكون مصير الإنسان، قد يصلّي، ويصوم، ويزكّي، ويحج، ويدخل النار بسبب أكل حق مسلم، سواء أكان هذا الحق كبيراً، أم صغيراً، لذلك يجب الإسراع برد المظالم إلى أهلها.
ذنوب لا يكفّرها الحج
ما هي الذنوب التي لا يكفرها الحج؟ وهل الذنوب التي يرتكبها الإنسان بعد الحج تتعاظم؟
يقول د. حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس أكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والدعاة، «الحج يكفّر صغائر الذنوب مطلقاً.. وأما الكبائر المتعلقة بحقوق الناس فإن كانت مالية، كدين عليه أكله ظلماً وعدواناً، فلا يكفّره الحج، ولا بد من وفاء دينه، وأمّا الكبائر المتعلقة بحق الله تعالى، فإن كانت مثل الإفطار في رمضان بغير عذر فيجب عليه قضاؤه ولا يكفّره الحج، وإن كانت مثل تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر فإن الحج يكفّره».
وعن تعظيم الذنوب بعد العودة من الحج، يبين «الله سبحانه وتعالى رحيم رؤوف بعباده، وهو عز وجل يلتمس لعباده ما يخلّصهم من ذنوبهم، ولذلك فكل من يرتكب ذنباً بعد العودة من الحج يظل ذنبه في حجمه الطبيعي حتى يتوب منه، ونحن ننصح كل من يرتكب ذنباً أن يبادر بالتوبة، وتطهير النفس ممّا علق بها، فلا يدري أحد متى ينتهي أجله».