14 نوفمبر 2020

كيف استطاعت رئيسة وزراء نيوزيلندا أن تكسب حب الناس؟

كاتبة صحافية

كيف استطاعت رئيسة وزراء نيوزيلندا أن تكسب حب الناس؟

من قارتها البعيدة، عرفت كيف تكسب قلوب العالم أجمع وقلوب مواطنيها بالدرجة الأولى. إنها جاسيندا آردرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا التي أعيد انتخابها بأغلبية ساحقة أواخر شهر أكتوبر الماضي. أما السبب في شعبيتها الطاغية فهو الحكمة التي واجهت بها الجريمة المروعة التي هاجم فيها متطرف من أبناء شعبها مسجدين وقتل عدداً من المصلين بدم بارد وعن سابق تصميم. من هي تلك السيدة التي صار اسمها الأول رمزاً للتسامح يطلقه الآباء والأمهات على مولوداتهم؟

رئيسة وزراء نيوزيلندا

ثالث امرأة تصل إلى منصب رئاسة الوزارة في نيوزيلندا

إنها السياسية التي تجمع عدداً من الأرقام القياسية رغم أنها ما زالت في الأربعين من العمر. فهي ثالث امرأة تصل إلى منصب رئاسة الوزارة في نيوزيلندا، وأصغر من قاد البلد منذ عام 1856، كما أنها أصغر من تزعّم حزب العمال في تاريخ بلدها. وقد جاء فوزها في الانتخابات التشريعية الأخيرة بمثابة التحية من مواطنيها لنجاحها في إدارة أزمة «كورونا» التي تجتاح العالم، وكذلك لأنها عرفت كيف تتعامل مع الجريمة الإرهابية المروعة التي راح ضحيتها 51 مواطناً مسلماً في نيزيلندا، كان ذلك في 15 مارس من العام الماضي. وقد شاهدناها جميعاً وهي تغطي شعرها وتذهب لتعزية أهالي الضحايا ولتزور المسجدين اللذين تعرضا للهجوم من وحش متطرف. كان عليها أن تتعامل بحزم مع انتشار الأسلحة في أيدي المدنيين، وهي قد فعلت وشددت من قوانين بيع السلاح وترخيصه. 
يتباهى الكنديون بأن لديهم رئيساً للوزراء اشتهر بالتسامح هو جاستن ترودو، والنمساويون بسيباستيان كورز، والفنلنديون بسانا ماران، أما جاسيندا فهي أيقونة النيوزيلنديين وخير من يقودهم بين هذه الباقة الجديدة والشابة من السياسيين في العالم. ففي خريف 2017، حين كانت تبلغ من العمر 37 عاماً، أصبحت أصغر رئيسة للوزراء في موطنها منذ القرن التاسع عشر. وخلال 3 سنوات عرفت كيف تكسب قلوب الناس بحيث حاز حزبها الأغلبية في البرلمان. 

سيلفي جاسيندا آردرن - رئيسة وزراء نيوزيلندا

خاضت جاسيندا المعركة ضد «كوفيد 19» بخليط من الحزم واللين ولم تنتكس مطلقاً. 

كانت تواصل تبليغ مواطنيها بأحدث مستجدات الجائحة، بشكل مباشر، عبر حسابها في «فيسبوك». وكانت منشوراتها باعثة على الأمل ولا تخلو من دعابات. فقد توجهت في الربيع الماضي بتسجيل إلى متابعيها قالت فيه «سيسعدكم أن تعرفوا بأننا نعتبر الفأر الصغير وأرنب عيد الفصح بين عمالنا الأساسيين لكنكم تقدّرون أنهما مشغولان كثيراً في هذا الوقت في البيت، مع عائلتيهما وأرانبهما الصغار». إن الأرنب والفأر هما من الشخصيات التقليدية التي تزور بيوت الناس في العيد، سواء على شكل دمى أو قطع شوكولاتة. وكان من الواضح أن رئيسة الوزراء تقصد تشجيع النيوزيلنديين على المكوث في بيوتهم لوقف انتقال العدوى، مستخدمة اللطف والفكاهة بدل الصرامة والتهديد بالغرامات. 

جاسيندا آردرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا

طالبت بإصدار نداء لتنظيم «الإنترنت» ووقف بث المواد والدعايات والأفلام التي تروج للتطرف 

هل يختلف أسلوب المرأة في الحكم عن أسلوب الرجل؟ لا شك أن رئيسة الوزراء تولي القضايا الاجتماعية الصدارة في اهتماماتها. إن الفرنسيين يذكرون لها موقفها المبدئي ونقاشاتها المؤثرة أثناء حضورها مؤتمرًا للقمة جرى في باريس في ربيع العام الماضي وكانت جاسيندا رئيسة له بمشاركة الرئيس الفرنسي ماكرون. كان مؤتمرًا عن ضرورة حماية الأطفال من السموم التي تبثها بعض المواقع ووسائل التواصل على الشاشات الصغيرة والهواتف الشخصية. ولأنها امرأة، فقد دعت إلى القمة رؤساء كبريات شركات البث الإلكتروني، وطالبت بإصدار نداء لتنظيم «الإنترنت» ووقف بث المواد والدعايات والأفلام التي تروج للتطرف والإرهاب. وقد اعتمدت في دعواها على الجريمة البشعة التي جرت في بلدة «كريستتشرتش» النيوزيلندية. فالإرهابي المسيحي المتطرف كان يبث مباشرة على «فيسبوك» صورًا من هجومه المسلح على المصلين الأبرياء في المسجدين، كما نشر بيانًا يقطر سمًا يبرر فيه فعلته. وفيما بعد حذفت المنصة الرقمية الصور.

ورغم أن مسافات شاسعة تفصل بين باريس وويلنجتون عاصمة نيوزيلندا، إلا أن الفرنسيين حفظوا اسم جاسيندا وكأنها زعيمة حزب من أحزابهم. ويمكننا اليوم أن نقرأ على موقع إذاعة «فرانس أنفو» الشهيرة تعليقًا كتبه شاب فرنسي في العشرين من العمر، يقول فيه «حين تسلمت مدام آردرن وظيفتها كنت أتساءل كيف ستنجح في إدارة بلادها وسط ضغوط الخصوم من الأحزاب الأخرى. لكنها نجحت بشكل مذهل». وعقب المجزرة الإرهابية تعاملت جاسيندا بحزم مع الجاني ومع من يؤيده وتعمدت ألا تذكر اسمه في الكلمة التي ألقتها في تأبين الضحايا، وبدلًا عنه تعمدت أن تذكر أسماء هؤلاء الضحايا واحدًا واحدًا. وقد كان لوقع كلمتها تأثير كبير في نفوس مواطنيها، ولدى المسلمين في العالم أجمع.

جاسيندا والرئيس الفرنسي ماكرون
جاسيندا والرئيس الفرنسي ماكرون

نشأت في مدينة فقيرة

والغريب أن جاسيندا ولدت في أسرة تنتمي لطائفة «المورمون». وقد نشأت في موروبارا، وهي مدينة فقيرة اعتادت أن تشير إليها في المقابلات التي يجريها الصحافيون معها. ولم يكن من المستغرب أن تصادف في تلك المدينة أطفالًا حفاة أو صبيانًا وبنات هزيلين ويعانون سوء التغذية. وهو واقع قد يثير دهشتنا لأننا نتصور تلك البلاد جزءًا من الغرب الثري والمرفه والسعيد، حيث يرتدي الأطفال أحلى الثياب وتتوفر لهم أنهار من الحليب. ومن تلك المشاهد المؤسفة ظهرت لديها الرغبة في دخول العمل السياسي. كانت تريد ألا يكون هناك طفل حاف أو جائع في الشارع. ومن تلك المدينة الفقيرة انتقلت أسرتها للعيش في ضواحي أوكلاند، إحدى أكبر مدن البلاد، وهناك أنهت البنت دراستها الثانوية ودخلت الجامعة لتدرس فنون الاتصال. وبموازاة ذلك كانت تضع قدمًا في الوسط السياسي رغم أنها لم تكن قد بلغت بعد سن الرشد. وفي عام 1999 انضمت إلى حزب العمال النيوزيلندي، وهي في السابعة عشرة من العمر. وبعد تجربتين انتخابيتين نالت جاسيندا موقعًا في فريق رئيسة الوزراء السابقة هيلين كلارك. وكانت هيلين بمثابة القدوة والمثال الأعلى والمحفز لها.

جاسيندا آردرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا

في سن 28 أصبحت أصغر عضو في مجلس النواب 

في عام 2005 تخلت جاسيندا عن عقيدة عائلتها بسبب تشدد تلك العقيدة في التعامل مع تطورات المجتمع. وفي العام نفسه طارت إلى أنجلترا وصقلت تجربتها في النشاط السياسي من خلال العمل لسنتين ونصف السنة في مكتب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وفي ختام تلك التجربة تم انتخابها رئيسة للاتحاد الدولي للشبيبة الاشتراكية، وبتلك الصفة سافرت إلى بلدان المغرب العربي ولبنان والصين والأردن وإسرائيل. كانت ترى المشكلات على الأرض، وتتعرف على الشعوب بشكل واقعي وليس عن طريق القراءة فحسب. وعندما عادت إلى بلدها وقع عليها الاختيار لتمثيل حزبها في انتخابات نيابية محلية لكنها فشلت في الفوز. ورغم ذلك دخلت المجلس النيابي بفضل موقعها المتقدم في قائمة حزبها. وفي سن 28 أصبحت أصغر عضو في مجلس النواب. 

قبل بلوغها الأربعين أصبحت زعيمة للمعارضة وأصغر رئيسة في تاريخ حزب العمال

في انتخابات عام 2011 عادت جاسيندا لخوض الانتخابات ثانية، لكنها هذه المرة رشحت نفسها عن منطقة وسط أوكلاند. وكان منافسها هو نكي كاي، مرشح الحزب الوطني، وهو أصغر منها ببضعة أشهر، وهذا ما دفع الصحافة النيوزيلندية إلى وصف تلك الانتخابات بأنها «معركة الطفلين»، وهي معركة فاز فيها كاي بفارق بسيط في الأصوات. مع هذا عادت جاسيندا إلى البرلمان بفضل قائمة حزبها، وقد اختارها رئيس الحزب ناطقة باسمه في قضايا التطوير الاجتماعي، وهي مهمة شملت فيما بعد قضايا الثقافة والفنون والعدل والحرَف الصغيرة. ومع حلول عام 2017 بدأت مسيرتها في التصاعد بعد انتخابها نائبة عن منطقة «ماونت ألبرت». وبلغ من شعبيتها في أوساط حزبها أنها فازت بموقع نائبة الرئيس. وكان الحزب يومذاك في أدنى مواقعه وقد فقد الكثير من شعبيته، وبسبب ذلك استقال رئيسه ولم يكن سوى جاسيندا من يستطيع ملء الفراغ. وهكذا، قبل بلوغها الأربعين أصبحت زعيمة للمعارضة وأصغر رئيسة في تاريخ حزب العمال.  حال انتخابها ارتفعت أسهم الحزب بشكل صاعق. ومع اقتراب الانتخابات كان قد تخطى الحزب الوطني. وبنت جاسيندا حملتها على أهداف اجتماعية محددة أولها مجانية التعليم الجامعي وتحسين ظروف النساء بالإضافة إلى برنامج لرعاية الأطفال الفقراء وتقديم شروط متكافئة لانتشال المهمشين من أوضاعهم المزرية. كانت المرشحة شديدة التفاؤل، دائمة الابتسام في ظهورها التلفزيوني، تمتلك تلك «الكاريزما» التي يتمتع بها القادة المحبوبون. وبلغ من حب الناس لها أن الصحافة راحت تتحدث عن ظاهرة «جاسيندامانيا»، أي هوس جاسيندا. وراح المعلقون يقارنونها بباراك أوباما. ونتيجة لتلك المكانة فاز حزبها بأكثر من ثلث الأصوات، وكان عليها أن تحكم بالتحالف مع حزب الخضر. وحددت رئيسة الوزراء عدد المهاجرين الذين تستقبلهم بلادها بـ 25 ألف شخص في السنة. كما وضعت برنامجًا لتوفير مساكن شعبية ورفعت من الأجر المقرر عن ساعة العمل. وبفضل تحالفها مع الخضر يجري تنظيف أنهار البلاد وبحيراتها من التلوث والتخفيف من الغازات الضارة في المصانع. 

جاسيندا آردرن مع أسرتها
جاسيندا آردرن مع أسرتها

ذهبت إلى اجتماع الأمم المتحدة في نيويورك حاملة رضيعها

هل هذا هو كل ما يقال؟ أليس لجاسيندا حياة خاصة؟ طبعًا، فهي تشارك حياتها مع كلارك كيفورد، وهو نجم تلفزيوني نيوزيلندي معروف. رزقا طفلة سمياها «نيف»، وقد أعلنت رئيسة الوزراء خبر حملها في مواقع التواصل، قبل انتخابها بأيام. وكان عليها أن تتمتع بستة أسابيع كإجازة ولادة. وهي واحدة من جيل أولئك السيدات الشابات المشتغلات بالسياسة ممن لا يخجلن من الذهاب إلى مكاتبهن وهن حوامل. وبعد أشهر من الولادة، أي في نهاية صيف 2018، لفتت جاسيندا أنظار العالم عندما وصلت إلى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ومعها طفلتها وشريك حياتها. وقالت للصحافة يومذاك «ابنتي شديدة التعلق بي ولا أستطيع أن أتركها وأسافر لعدة أيام». كانت تحتضن الطفلة بين ذراعيها قبل دقائق من توجهها إلى المنصة لإلقاء خطابها.