كل ما في هذه القضية يبعث القشعريرة في النفوس. فالمتهمة شابة قتلت زوج والدتها الذي أصبح زوجها. والقتيل لم يتوقف عن التحرش بها واغتصابها منذ الطفولة. وقد حملت منه وولدت 4 مرات، ثم كان يجبرها على بيع جسدها ويقبض الثمن. لكن قمة الإثارة كان لحظة النطق بالحكم، حيث خرجت القاتلة من قاعة المحكمة إلى بيتها على الرغم من أن القاضي لم يبرّئها بشكل كامل.
هي قضية عام 2021 في فرنسا من دون منازع، وهي قضية تثير الجدل حول موضوع الزوجات قاتلات أزواجهن. فهل هناك اختلال في ميزان العدالة بخصوص هذا النوع من الجرائم؟ وهل هناك نوع من التساهل في الحكم على القاتلات؟
من الواضح أن القضاة بدأوا يأخذون في الحسبان معاناة الزوجة التي تتحمل لسنوات طوال الركل واللكمات والتكسير والتجويع وكيل السباب والإهانات. وعادة ما يقف المحامون ليترافعوا لمصلحة المتهمة، مستندين على مبدأ الدفاع عن النفس. فالزوجة في وضع لا تحسد عليه: إما قاتلة وإما مقتولة. وتزداد القضية تعقيداً في حال وجود أطفال يتعرضون للضرب والترهيب وللتحرش الجنسي.
وما محاكمة فاليري باكو، الزوجة الفرنسية التي أجهزت على زوجها برصاصة في العنق، سوى عينة نموذجية من هذه الجرائم التي تنفر منها ومن ملابساتها الفطرة السليمة.
«الكل كان يعلم»
في الثاني من أغسطس الحالي، ظهرت الصحف الفرنسية وهي تحمل بالخط العريض إحصائية سنوية لعدد النساء اللواتي فقدن حياتهن بسبب العنف المنزلي. إن الرقم صادم: 102 جريمة قتل كانت ضحيتها زوجات على أيدي أزواجهن أو طلقائهن. وجاء هذا الرقم متزامناً مع تعديل في قانون العقوبات ومع وضع إجراءات جديدة للتعامل مع الشكاوى التي تتقدم بها النساء إلى مراكز الشرطة، ففي السابق كان المطلوب للتحقيق مع الزوج أن يتسبب اعتداؤه على زوجته بجروح وكسور واضحة لها، تستوجب دخولها المستشفى. أما في التعليمات الجديدة فإن على الشرطة أن تتعامل مع بلاغات الزوجات ضحايا التعنيف بكثير من الجدية، وأن توفر لهن الحماية المطلوبة.
القاتلة الضحية
وعودة إلى قضية فاليري باكو. فقبل شهرين، حكمت محكمة الجنايات عليها بالسجن لمدة أربع سنوات، منها سنة واحدة بالحبس الفعلي، والباقي من دون تنفيذ. وبما أنها كانت معتقلة لمدة عام لأغراض التحقيق، وهو ما يعني أنها قضت العقوبة المفروضة عليها، فقد أُفرج عنها وخرجت من المحكمة حرة مطلقة السراح، وهو أمر لم تكن المرأة البالغة من العمر 40 عاماً تحلم به.
إنها متهمة بارتكاب جريمة قتل وقعت في عام 2016، والقتيل كان زوج أمها، رجل عنيف ومنحرف كان يغتصبها منذ أن كانت طفلة في الثانية عشرة من عمرها، وبعد ذلك تزوجها وولدت منه 4 أبناء.
أما التفاصيل فيصعب احتمال سماعها أو قراءتها، وهي تروي كل تلك الوقائع في كتاب جديد صدر في باريس بعنوان «الكل كان يعلم» ، ويعني أن كل المحيطين بها كانوا على علم بمأساتها، وبما عانته من دون أن يتدخل أحد لانتشالها من براثن ذلك الوحش.
كتاب «الكل كان يعلم»
بدأت المأساة بعد أن طُلِقت والدتها من أبيها. ففي يوم من الأيام عادت الأم إلى البيت ومعها رجل غريب يُدعى دانييل ويعمل سائقاً لشاحنات النقل. وقد بدت الوالدة سعيدة، واستعادت ابتسامتها، وتخلت عن الإفراط في تناول الكحول. عامل دانييل ابنتها بشكل طيب في البداية، قبل أن يكشر عن أنيابه. وتقول فاليري «في البداية كنت سعيدة بقضاء الوقت معه على الرغم من أنه كان متسلطاً. كنت أنظر إلى العلاقة بيننا مثلما هي بين أب وطفلة. لقد كنت سعيدة لأنني أستطيع أن أعيش ما تعيشه بقية البنات مع آبائهن، وبأننا سنكون، أخيراً، أسرة عادية. لذلك عندما قال لي: سأعلمك كيف تغتسلين، إن والدتك ليست نظيفة، فقد صدقته. كان ينظف جسدي بالصابون ويدهنه بمراهم ذات عطر طيب، لذلك لم أفهم ما حدث في ذلك اليوم البعيد».
عاملها وكأنها من أشيائه مثل ساعة يده أو حزام سرواله
لم تكن البنت تفقه شيئاً حول الجنس. لقد تعلمت في المدرسة حقائق عمومية حول الإنجاب لكن لم يعلمها أحد كيف تحمي نفسها. وقد احتاج الأمر منها إلى سنتين لكي تفهم أن دانييل أزال عذريتها. كانت تشعر بأنه رجل سيئ، فتشجعت وتقدمت بشكوى ضده لدى الشرطة، وهناك قاموا باستجوابها بحضور طبيب نفسي، وآخر كشف عليها ثم ألقوا القبض على دانييل واقتادوه إلى السجن. لكن البنت بقيت على سذاجتها، ولم يخبرها أحد عن تعرضها للاغتصاب، وحتى الطبيب النفسي الذي تابع حالتها لم ينطق تلك الكلمة. كانت تحاول أن تكتب ما كان يحصل معها في دفتر مذكرات. كتبت أن جسدها كان مملوءاً بحروق السجائر التي يعاقبها بها لكي ترضخ له. وعندما عادت من مركز الشرطة وجدت الدفتر محترقاً، لقد أحرقته والدتها. كانت الأم غاضبة على ابنتها لأنها نقلت أسرار البيت للخارج.
أثناء سجن دانييل بتهمة اغتصاب فتاة قاصر، عادت والدتها إلى الإفراط في الشراب، وأصبحت أكثر عدوانية مع ابنتها، بينما كانت فاليري تفعل كل ما في وسعها لتجعلها سعيدة، ولكي تسامحها على الوشاية بدانييل. لقد دخل في روع البنت أنها هي المذنبة، وليس المغتصب.
كانت تذهب مع أمها لزيارته في السجن، وتتلقى منه رسائل وترد عليها. لقد تصورت أنه سيكون رجلاً أفضل حين يطلق سراحه. أمضى في الحبس 33 شهراً، وعندما عاد كان أسوأ من السابق.
وتكتب فاليري في كتابها «أرعبتني نظرته. لقد انقلب إلى وحش بين لحظة وأخرى من دون أن أعرف السبب. وفي كل يوم، عندما أعود من المدرسة، يدعوني بعد تناول شاي العصر لكي نصعد إلى الطابق العلوي. كنت أعرف ما يعنيه ذلك. وكنت أبكي لأنني أخاف منه ومن عقابه العنيف».
فكرت أن تهرب من البيت.. ولكن إلى أين؟ وبأي نقود؟
فكرت البنت المراهقة بالهرب من البيت. أخفت حقيبة سفرها من تحت سريرها، ووضعت فيها حاجياتها وأغراض أخيها الصغير، الذي تحبه وتعتبره مثل طفلها. لكن إلى أين يذهبان؟ وبأي نقود؟ هي نفسها طفلة لا تملك شيئاً، ولا مكاناً تلجأ إليه، فإذا قصدت بيت جديها فإنهما سيعيدانها إلى أمها، أما الذهاب إلى أبيها فلم يكن وارداً لأن شقيقها الكبير يعيش مع الأب .. الشقيق نفسه الذي كان يتحرش بها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها وكان هو في العاشرة!
في سن السابعة عشرة اكتشفت فاليري أنها حامل. وتقول إن والدتها كانت بالتأكيد على علم بما تعرضت له. أجرت لها اختباراً للحمل وأخبرت والدها. كان أخوها الصغير يمضي إجازة معه، وكان المفروض أن يعيده لكن ذلك لم يحصل. واتصلت فاليري بالأب، هاتفياً وكان غاضباً وقال لها «إذا كنت تريدين أن يعود أخوك إلى منزل والدتك فلديك أسبوع لحزم حقائبك وإلا فسيبقى معي».
تفاصيل صادمة
أثناء جلسات المحكمة، زعمت الأم أن فاليري هددتها بسكين المطبخ لكي تتركها تغادر البيت، في حين أكدت البنت أنها خرجت مطرودة. وقد أخذها رفيق أمها إلى بلدة مجاورة وعاش معها عيشة الأزواج ، تكتب «عشت حياة فاسدة، حزينة، وكنت أعاهد نفسي كل يوم ألا أكون مثل أمي وأن أربي أبنائي وبناتي على المحبة والحنان وأحميهم من أي اعتداء. وعندما وضعت ابني الأول ركزت عليه عواطفي وأردته أن ينشأ نشأة طبيعية، لذلك لم أفصله عن أبيه». وتمر السنوات، وتنجب فاليري 3 أبناء، مع استمرار مسلسل الضرب والترويع. كان يتحجج بأي سبب لكي يوجه لها اللطمات. مرة بحجة أنها لم ترتب ألعاب طفلهما، أو أن القهوة كانت باردة، أو ساخنة أكثر مما يجب... وهكذا.
لجأت إلى الشرطة مرتين. لكن الشرطة سجلت بلاغاتها ولم تتخذ إجراء
وطبعاً لم يكن يسمح لها بالخروج من البيت، ولا باصطحاب الأطفال إلى المدرسة، ولا إلى السوق. عاملها وكأنها تعد شيئاً من الأشياء العائدة له، يملكها مثل سيارة أو ساعة يد أو حزامه الجلدي ويتصرف بها كما يشاء. وحتى عندما تجتهد لتنفيذ أوامره بالكامل فإنه يفتعل سبباً لضربها. كان يرميها بكل ما تقع يده عليه، ولا يسمح لها بالنوم إلا بعد تنظيف البيت كله والخزائن والثلاجة. وأحياناً يوقظها في الليل لكي تنظف من جديد. بل إنه كان يكره اهتمامها بأطفالهما لأنه يريدها دائماً تحت قدميه. لكن أكثر ما كان يرعبها هو عنفه مع الأطفال. كانوا يرونه يصوب مسدسه إلى رأس أمهم وهي واقفة تغسل الصحون، ويضحك وهو يرى الفزع في أعينهم. وعندما كان الأطفال يبكون ويسألونها عن الجروح التي في وجهها كانت ترد عليهم بأنها بخير، وأن تلك الخلافات هي أمر يجري بين الكبار، ولا دخل لهم فيها. لكنه كان يعلمهم كيف يشتمون والدتهم بكلمات مقذعة مثلما يشتمها. لم يكن الأسوأ قد حدث بعد. صار يجبرها على معاشرة رجال غرباء يأتي بهم إلى الشاحنة التي يشتغل عليها، ويقبض الثمن.
لم تستسلم فاليري تماماً. هربت ولجأت إلى الشرطة مرتين. لكن الشرطة سجلت بلاغاتها ولم تتخذ إجراء. وعندما لم تعد قادرة على الاستمرار في ذلك العذاب وبيع جسدها للغرباء، أقدمت على نقطة اللاعودة، وكان ذلك في 13 مارس 2016. في ذلك اليوم طالبها أحد الزبائن بفعل معين وأجبرها عليه، ولدى مغادرته كان الدم يسيل منها. لكن دانييل ألقى باللوم عليها واتهمها بأنها لا تساير الزبائن وبذلك فإن الزبون لن يعود. بلغ السيل الزبى. كان يخبئ مسدسه في شاحنته. لم تشعر بنفسها إلا وهي تتناول المسدس وتوجهه صوب عنقه.
لا تذكر ما حدث سوى أنها رأت وميضاً وسمعت صوتاً وشمت رائحة ما. فتحت باب السيارة فسقط زوجها منها. لم تعرف أنه أصيب. جلست هي وراء المقود ولم يكن في رأسها فكرة سوى الهرب. كانت واثقة من أنه لو أمسك بها سيقتل أطفالها أمامها ثم يقتلها. هذا ما كان يهددها به دائماً. لجأت إلى بيت خطيب ابنتها وعادا معاً إلى موقع الحادث، في منطقة خارج البلدة. وهنا أخبرها الشاب بأن زوجها قد مات.
عادا إلى البيت وجمعت أبناءها وأخبرتهم بما حدث. احتضنوها للتخفيف من رعشة جسدها، وكانوا خائفين، أرادت منهم أن يشهدوا بالحقيقة وألا يتخلوا عنها.
في الحبس الاحتياطي، شعرت بالأمان للمرة الأولى في حياتها لأنها كانت محاطة بالنساء. نامت من دون قلق كما لم تنم منذ سنوات طوال. وقد تعاطفت معها السجينات لأن قصتها كانت في كل وسائل الإعلام، بكامل التفاصيل. وحين كانت إحداهن تغادر التوقيف فإن فاليري كانت تشعر بأنها تخلت عنها. لقد أودعوها ديراً للراهبات لكي تعيش في هدوء بانتظار محاكمتها.
ودخلت ورشة تتعلم فيها مهنة تعيش منها. فهل تستطيع أن تبدأ حياة جديدة خالية من الكوابيس والذكريات المُرة؟
إنها تلوم نفسها لأنها كانت ضعيفة ولم تقاوم الاعتداءات. لقد تفهم القاضي دوافعها وأصدر عليها حكماً مخففاً، فهل يتفهم المجتمع؟
إن هناك من يرى أن ميزان العدالة قد اختل. فالقاتل يجب أن يقضي بقية حياته وراء القضبان طالما أن فرنسا قد ألغت عقوبة الإعدام.
لكن ما يهم فاليري قبل كل شيء هو أن يغفر لها أبناؤها ما قامت به حين قتلت أباهم، وأن يواصلوا العيش معها. لقد ظلمها المجتمع حين غض النظر عمّا كان يحدث لها، وظلمتها السلطات حين تعاملت الشرطة باستخفاف مع بلاغاتها، وظلمها الطبيب النفسي حين لم يقرر نزعها من بيت العائلة لكي يوكلوا أمرها إلى أسرة بديلة. أما والدتها فإنها لا تنوي أن تلتقي بها بل تقول إنها قد ألغتها من حياتها.