طوال سنتين وهي تشتكي من الشتائم والتهديدات التي تتلقاها عبر الشبكة الإلكترونية، إلى أن انهارت أعصابها وقررت وضع حد لحياتها تاركة وراءها بيتاً كان سعيداً وأربعة أبناء حزانى.
ماذا حدث للشقراء الفرنسية مافاشو، صاحبة المدونة الشهيرة التي يتابعها مئات الآلاف؟ ولماذا لم يلتفت أحد لشكواها، ولا حتى النائب العالم الذي بعثت إليه برسالة كانت أشبه بنداء استغاثة أخير؟
قبل أيام من الحادث الذي أودى بحياتها وأصاب الفرنسيين بالحزن، ظهرت مافاشو على شاشة التلفزيون في برنامج معروف وتحدثت عن معاناتها مع سيل الشتائم التي كانت تتلقاها من متابعيها.
قالت إن الأمر يستمر منذ أشهر وقد تحولت حياتها إلى جحيم. وهي قد تقدمت بعدة شكاوى لكن لا أحد يعيرها اهتماماً أو يلتفت إلى خطورة الأمر. لم يتصور أحد أن حالتها النفسية كانت قد تدهورت حتى ما عادت تطيق الاستمرار في العيش.
مافاشو، واسمها الحقيقي مايفا فروسار، فرنسية حسناء في الثانية والثلاثين من العمر. لها مدونة على الشبكة الإلكترونية يتابعها 200 ألف شخص بحيث إنها تحولت إلى شخصية مؤثرة في مجتمعها، أي «أنفلونسر» بلغة هذا العصر.
كانت متزوجة ولها أربعة أبناء، وزوجها كان يشاركها في التسجيلات اليومية التي تنشرها في مدونتها.
هل كان من الخطأ أن تفتح بيتها لآلاف المتابعين وتطلعهم على كل صغيرة وكبيرة تجري تحت سقف العائلة؟
قبل سنتين انهار الحلم الجميل بسبب طلاق مافاشو. لقد انفصلت عن زوجها أدريان بعد عشرين عاماً من الصداقة والحياة المشتركة وبذلك انهالت عليها رسائل التأنيب من نساء وأمهات وربات بيوت وضعن عليها اللوم في الطلاق. ولعل سبب ثورتهن ضدها هو أن أدريان ذا الوجه الطفولي الممتلئ واللحية الحمراء كان يمثل الشخص المظلوم في العلاقة.
إن له مدونته ومتابعيه هو الآخر، وقد ساعد زوجته في تسجيلاتها وكان يظهر معها وهي تتحدث وتدور داخل البيت وتغني وتطرق مختلف المواضيع، لكن جزاءه كان أنها هجرته ثم ارتبطت برجل آخر.
في واحد من تسجيلاتها الأخيرة التي بثتها مساء الخامس عشر من الشهر الماضي، ظهرت مافاشو مهمومة وهي ترنو للكاميرا بعينين زرقاوين حزينتين محاطتين بالهالات وشعر انحسرت عنه صبغته الشقراء.
كان صالون بيتها يسبح في الفوضى على غير العادة، وهي قد اعترفت بأن أحوالها منذ طلاقها ليست على ما يرام، وتمر بفترة إحباط، وقالت بصوت واهن إن من الصعب جداً أن يبتسم المرء وهو يتألم. بعد ذلك توقفت عن بث التسجيلات لتنشر الصحف، بعد أسبوع، خبر وفاتها.
كيف ماتت؟ هل كانت مريضة أو أصيبت بالـ«كوفيد»؟ هل تعرضت لاعتداء؟
كشفت التحقيقات عن أن لا شيء من ذلك. لقد أنهت حياتها وحيدة في بيتها بمنطقة «لا فوج» بمقاطعة الألزاس، شرق فرنسا. شعر متابعوها بالصدمة. ولعل الذين هاجموها أحسوا بالذنب وهم يشاهدون مقابلتها التلفزيونية.
كانت تشتكي من حملة منظمة للتنمر والكراهية التي استهدفتها عبر مواقع التواصل منذ طلاقها أوائل 2020. وقالت إنها تتلقى كل صنوف الإهانات والشتائم، بمعدل ألف رسالة في اليوم.
وكان هناك من يتصل بمدارس أولادها لمعرفة موقفهم أو للحصول على أخبار تخص والدتهم. وسرعان ما حامت حول الزوج شبهات بأنه وراء تحريك تلك الحملة وتحريض الآلاف من متابعيه عليها.
لكنه رفض الرد على أسئلة وسائل الإعلام ونفى أن تكون له يد فيما حصل لطليقته.
وقد فتحت النيابة العامة تحقيقاً في سبب الوفاة بتهمة التحرش والمضايقات المعنوية لملاحقة أصحاب رسائل التنمر.
كانت حياة الزوجين بمثابة حلم وردي انقلب إلى كابوس. وهي قضية تختصر واقع أصحاب المدونات والنفوذ المتنامي الذين يحصلون عليه والشهرة التي تغريهم بتقديم المزيد من التسجيلات والمغالاة في التشويق والإبهار. كما تختصر واقع العنف الذي يمكن أن يختبئ وراء مواقع التواصل، ولامبالاة المنصات التي تستضيف تلك المدونات، وكذلك الصعوبات التي تواجهها العدالة في التعامل مع هذا الواقع المعقد. وهو ما دفع المحامي ستيفان جيورانا، الذي يمثل مافاشو وأسرتها، إلى القول بأن الوقت قد حان لسن تشريع يحاسب العنف على مواقع الشبكة والذي يمكن أن يفضي إلى الموت.
كانت نموذجاً للزوجة الشابة التي تسجل وقائع حياتها بمرح وسعادة
بدأت شهرة مافاشو وأدريان في عام 2015. كانا يقيمان آنذاك في بلدة «باتيي»، إلى الشمال الشرقي من فرنسا. فقد أطلق الزوجان مدونة مصورة، وكانت شكلاً جديداً من التسجيلات الحية التي يتابعها الشبان والشابات من باب التسلية والفضول أو البحث عن معلومات جديدة.
وفي ذلك الوقت كانت مافاشو حاملاً بطفلها الرابع وتتحدث بحرية وصراحة عن حملها وما يرافقه من مواقف وتقلبات. وسرعان ما كسبت المدونة عشرات الآلاف من المتابعين الذين كانوا يتفرجون على حياة الزوجين ويدخلون بيتهما بشكل افتراضي ويشاركونهما يومياتهما بكافة تفاصيلها، من جولات التسوق في المتاجر وحتى الاطلاع على النتائج المدرسية للأبناء.
إن غالبية المتابعين كن من الأمهات الشابات اللواتي جذبتهن شخصية صاحبة المدونة التي تبدو شبيهة بهن ولها مشكلاتها الصغيرة التي تشبه مشكلاتهن.
كانت عفوية في حديثها، تنطلق أمام الكاميرا وتغني وترقص وترسم على وجهها تعابير مضحكة مثل المهرجين. وكان زوجها حاضراً دائماً في المشهد، بكرشه السمين وشعره الأحمر وطبعه اللطيف.
لقد تعارفا عبر «النت»، وكانت هي تقيم على الحدود الشرقية قريباً من جنيف، وكان هو من أهالي مقاطعة اللورين، في شرق فرنسا أيضاً، وقد وجد كل منهما سعادته لدى الآخر. مع نجاح المدونة انهالت عليها الإعلانات وبدأت تدرّ النقود على الزوجين. وكان ذلك يرضي مافاشو ويشعرها بالاطمئنان.
وتقول صديقتها المقربة ماريون إنها كانت تحتاج دائماً لاعتراف الآخرين بها. إن رسائل المديح والتعاطف من المتابعين تفرحها وتملؤها بالرضى وتجعلها في أحسن حالاتها. كان عدد المتابعين يرتفع حتى وصل إلى 200 ألف مشترك. لكن أشخاصاً آخرين بدأوا بالظهور ساخرين من هذه الشهرة الزائفة ومنددين بالمكسب السهل الذي يحصل عليه نجوم تلفزيون الواقع والمدونون والمدونات الذين لا يملكون أي شهادة دراسية أو موهبة حقيقية غير عرض حياتهم وثيابهم وأكلاتهم ومشترياتهم على الملأ
حسابها الشخصي في يوتيوب
انهيار الحلم
ومع حلول 2020 وصل الزوجان إلى عتبة جديدة. وقع الانفصال وراح كل منهما يحكي وجهة نظره ويكشف عيوب الآخر أمام آلاف المتابعين. وتتابعت التسجيلات والتسجيلات المضادة في حرب بالصوت والصورة.
راح أدريان يحكي عن أطفاله الذين يعيشون واقعاً صعباً. إن أكبرهم في العاشرة وأصغرهم في الخامسة، يستيقظون ليلاً وهم يبكون بسبب غياب الأم التي تتنقل من مغامرة إلى أخرى وتكشف عن تعلقها برجل آخر. وسرعان ما نشأت قبيلتان إلكترونيتان متحاربتان من الأنصار، كل قبيلة تتبع طرفاً. وتقول واحدة من متابعي الزوج «لقد تحمست ضد مافاشو وتسرعت في نشر تعليقات أنتقد فيها إهمالها لأطفالها. لم أفكر بأنني أتدخل في حياة أسرة وأتسبب في الأذى لأشخاص حقيقيين».
من يستطيع أن يفصل بين الواقع الافتراضي الموجود على الشاشة وبين الحياة الحقيقية؟
تجاوزت التحرشات حدود الشاشة، وكان هناك من يطارد الصغار أو يتجسس على مافاشو ويقوم بتصويرها ليثبت أنها تعيش حياة منفلتة. ثم بدأت تظهر تعليقات مستفزة على «النت» وتحرشات جنسية بالأطفال، وهو أمر أرعب الأم فسارعت إلى حذف كل التسجيلات التي يظهر فيها أبناؤها. لكن زوجها رفض حذف التسجيلات من مدونته.
ومع حلول 2021 تدهورت حالة مافاشو خصوصاً حين قرر زوجها منعها من زيارة الأطفال بحجة حمايتهم منها بعد ارتباطها بشريك جديد. وكان هناك من اتهمها باستغلالهم جنسياً. كما تعرض شريكها الذي يعمل موظفاً في شركة صغيرة للشتم وللتنمر وراح يخشى على حياته بعد نشر صور مختلسة له ولمنزله والشارع الذي يقيم فيه.
داهم رجال الشرطة منزل مافاشو وصادروا حاسوبها وكاميرتها. وبدأت مرحلة مختلفة من حياتها. لقد هربت السعادة من الشباك وانفتح الباب للأزمات الصحية ومواعيد الطبيب النفسي. فقدت الكثير من وزنها وصارت تعيش على العقاقير المضادة للاكتئاب.
صورتها الأخيرة على حساب انستغرام قبل الانتحار
تتالت عليها نوبات القلق والبكاء وهي وحيدة في المساءات الباردة. وكانت تبدو في تسجيلاتها الأخيرة تتنفس بصعوبة وتشهق باحثة عن نسمة هواء تهرب من رئتيها. كانت تتلقى المزيد من الشتائم ورسائل التهديد وقد تداولت المواقع قائمة بأسماء عشاق مفترضين لها.
ضاعت الحدود بين الافتراء وبين الواقع وحوصرت «الإنفلونسر» في دائرة خانقة وباتت تشعر بأنها كائن مؤذ للجميع وأن من الأفضل لها أن تختفي من الحياة.
لقد تقدمت خلال سنتين بخمسة بلاغات إلى الشرطة شاكية التنمر الذي تتعرض له لكن أحداً لم يهتم لبلاغاتها. ولما كتبت للنائب العام لم تتلق جواباً. حاولت مافاشو ترك مدونتها وتكريس مزيد من الوقت للتجارة التي تقوم بها على الشبكة، لكن مدونتها وما تنشره من تسجيلات متباعدة كانت مصدر عيشها الوحيد في المدى القريب. لقد تملكها الخوف من فقدان الأمان المادي ولم تبارح ذهنها ذكرى موظف تحصيل الديون الذي وقف بباب بيتهم ليحجز على أثاثهم مقابل أقساط غير مدفوعة.
كان الزوجان يسكنان منزلاً جميلاً قرب جنيف حيث أسس أدريان شركة للإلكترونيات بالتشارك مع والد زوجته. لكنه تورط في ديون كثيرة وأخفى الأمر عن شريكه وعن زوجته التي لم تعلم بخسارته إلى أن طرق موظف الحجز بابها. لقد تراكمت الديون عليهما بحيث إن اسميهما أدرجا على قائمة البنك المركزي الفرنسي للأفراد الممنوعين من حيازة دفاتر صكوك وبطاقات ائتمان.
وقد تقدم الأب بشكوى قضائية ضد صهره وكان يشجع مافاشو على الانفصال عنه لأنه لن يطمئن عليها مع زوج مخادع مثله. اليوم، بعد انتحارها، يتهرب أدريان من الصحافة ويقول إنه يرفض الرد وهو تحت تأثير الانفعال. لكنه يثق في العدالة وقضاة التحقيق. كان قد تلقى اتصالاً هاتفياً منها صبيحة انتحارها، فقد كان الأطفال تحت رعايتها قي ذلك النهار. ولاحظ أن صوتها واهن وأخبرته أنها ستوصلهم إلى بيته ريثما تستعيد قواها.
كانت تريد أن تستغل فترة وجودها وحيدة لكي تغلف هدايا عيد الميلاد. ثم اتصلت به بعد الظهر ورجته أن يسامحها بسبب زجه معها في معمعة التنمر الذي يحاصرها، ورد عليها بألا تقلق وأن المحامي يتولى متابعة القضايا. وبعد ساعة جرب محادثتها فلم يتلق سوى الصمت. عند إعلان وفاتها، سارع المئات من متابعيها إلى مسح محادثاتهم معها من مواقع التواصل لئلا يتورطوا في القضية.
ألا تذكركم حكاية الفرنسية مافاشو بالمراهقة المصرية بسنت التي انتحرت مؤخراً بسبب نشر صور عارية مفبركة لها على «النت»؟ إن هناك وراء الشاشة يقبع، أحياناً، قاتل مجهول.