رغم كل ما هو متاح للمرأة في فرنسا من حقوق وحريات فإن الوسط السياسي ما زال يتعامل مع النساء المشتغلات بالسياسة بنظرة ذكورية فوقية.
لكن فاليري بيكريس، المرشحة لانتخابات الرئاسة، تخوض اليوم معركة ضد هذا التمييز.
أما سلاحها فهو مسيرتها السابقة كوزيرة ونائبة كسبت احترام عموم الفرنسيين.
هل تكفيها سمعتها الطيبة لتصبح أول امرأة تدخل «الإليزيه» كرئيسة للجمهورية؟
«عندما يتفوه رجل برأي أحمق فإنها هفوة. أما إذا تفوهت امرأة بحماقة فإنه إثم». هذا ما أعلنته فاليري بيكريس في واحد من تصريحاتها الأخيرة للصحافة. ومدام بيكريس هي نائبة في البرلمان ووزيرة سابقة وتشغل حالياً رئاسة منطقة باريس وضواحيها. والأهم مما سبق أنها مرشحة تتنافس مع مرشحين في انتخابات الرئاسة التي تجري في الربيع المقبل.
أما المنافس الحقيقي لها فهو الرئيس ماكرون نفسه الذي لا يخفي نواياه للفوز بولاية رئاسية ثانية. إن الاثنين يمثلان تيار اليمين المعتدل. وهناك منافسون من اليمين المتطرف، يلعبون على أوتار التخويف من المهاجرين، والمسلمين بالذات.
سر السترة الحمراء
ليست هناك امرأة بين السياسيات الفرنسيات لم تتعرض للنظرات الذكورية والسخرية التي تتلقاها من زملائها. ورغم كل ما تتمتع به الفرنسية من حقوق فإنها لم تفلح في الخلاص من تلك النظرة التي تشكك بقدراتها ولا ترى فيها سوى تنورة تكشف عن ساقين. ولعل هذا هو السبب الذي يجعل الوزيرات وعضوات البرلمان يظهرن دائماً مرتديات السروال الرجالي. وقد تجرأت عديدات منهن على فضح ما تعرضن له من تعليقات مكشوفة من زملائهن النواب لمجرد أنهن ارتدين فستاناً في الصيف، أو بدلة مؤلفة من سترة وتنورة.
هل هذا هو السبب الذي جعل فاليري بيكريس تتحدى تلك النظرة وتظهر في أحد اجتماعاتها الانتخابية مرتدية تنورة وجالسة في الصف الأول، واضعة الساق على الساق أمام الكاميرات؟ إنه مشهد عادي يمكن أن يراه المرء في المجالس والمقاهي والفنادق والأماكن العامة، لكنه غير مألوف في الوسط السياسي حيث على المرأة أن تكون «رجلاً» تنافس زملاءها في البدلة القاتمة والقميص المحتشم والسروال الذي يغطي التفاصيل.
ليس هذا فحسب، لقد قررت المرشحة بيكريس أن تتجول بين أنصارها وهي ترتدي سترة حمراء صارخة، وأن ترفع ذراعيها بعلامة النصر. كانت تبدو وكأنها وردة جورية بين حشد من الرجال الذين يرتدون بدلات غامقة.
وحال نشر الصور راحت الصحف الشعبية تتفنن في تفسير مغزى اللون الأحمر. كان ذلك بعد أن فازت باختيار الحزب الجمهوري لها كمرشحة لانتخابات الرئاسة، في الرابع من الشهر الماضي. إنه لون أبعد ما يكون عن الحياد، وهو بمثابة صرخة اعتراض في وسط سياسي تخيم عليه علامات التشاؤم، وأجواء اجتماعية مشحونة بالخوف من تصاعد الجائحة.
يقول خبراء العلاقات وتفسير لغة الجسد إن كل تلك التصرفات مدروسة ومخطط لها. ومثل كل سياسيي الصف الأول، تسترشد فاليري بيكريس بنصائح شركة للترويج الدعائي ومتخصصين في اختراق وعي الجمهور العريض. ودائماً ما كانت الثياب، أو الموضة، عنصراً مهماً لا يغفله السياسيون في التأثير في الآخرين، سواء أكانوا أنصاراً أو خصوماً. إنها تكشف حالتهم النفسية والعقلية وتؤشر لتوجهاتهم الفكرية.
«الثياب في السياسة»
هذا ما يؤكده كتاب جديد صدر في باريس للمؤرخة صوفي ليمايو بعنوان «الثياب في السياسة». ومما جاء في الكتاب أن من السذاجة أن نتصور أن لا رموز مضمرة وراء المظهر الذي يخرج به علينا السياسيون، رجلاً ونساء.
فكل قطعة ثياب أو تسريحة أو وشاح أو حقيبة هي خطة استراتيجية مدروسة وتعبير عن هدف مقصود. وفيما يخص فاليري بيكريس، تقول مؤلفة الكتاب، إنها كانت في السابق متحفظة في اختيار ثيابها، تريد أن تلفت انتباه المستمعين إلى خطابها وإلى أفكارها وألا تشتت أنظارهم بثياب ملونة ومعقدة. لكن انتقالها إلى السترة الحمراء، فجأة، جاء بمثابة إشهار لترشيح نفسها لأعلى منصب في الدولة، ولكي تلفت الانتباه بين حشد الحضور من منافسيها الرجال، وذلك في مؤتمر الحزب الذي فازت بترشيحه لها.
وتجدر الإشارة إلى أن اللون الأحمر كان علامة لليسار وللشيوعيين. في حين أن بيكريس هي مرشحة اليمين الفرنسي التقليدي، وهي قد اختارت هذه الدرجة الفاقعة من الأحمر لكي تؤكد قوتها.فقد كان الأحمر هو رمز النفوذ والسطوة عبر التاريخ.
ولكن من هي فاليري بيكريس، هذه المرشحة التي لا يعرفها الناس خارج فرنسا؟
ولدت فاليري آن إميلي رو (وهذا هو اسمها الكامل) في الرابع عشر من يوليو 1967، أي في يوم العيد الوطني الفرنسي. وجاء ميلادها في ضاحية «نويي» الراقية. فهي من أسرة ميسورة، والدها أستاذ جامعي وكان رئيساً لشركة شهيرة للاتصالات الهاتفية. أما جدها لوالدتها فكان طبيباً نفسياً متديناً، ناضل في صفوف المقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية واستضاف في بيته صحيفة مسيحية سرية كانت ممنوعة خلال الاحتلال الألماني لفرنسا.
وجدها هو الطبيب الذي عالج لورنس، ابنة الرئيس الراحل شيراك، التي عانت اضطرابات نفسية. درست البنت في مدارس خاصة وتربت تربية دينية كاثوليكية. لكنها تؤكد أنها علمانية وأن الدين يبقى شأنها الخاص المنفصل عن السياسة.
وفي سن الخامسة عشرة التحقت بمعسكر للشباب في مدينة يالطا الروسية حيث تعلمت اللغة الروسية. وبعد تخرجها في الثانوية درست اللغة اليابانية وسافرت إلى طوكيو لتمتين لغتها وعملت بائعة لمستحضرات التجميل والمشروبات الفرنسية.
ولما عادت إلى باريس نالت شهادات في التجارة والاقتصاد قبل أن تدخل المدرسة العليا للإدارة، وهو المعهد العريق الذي اشتهر بتخريج الوزراء ورؤساء الجمهورية. وأثناء دراستها شاركت في الاعتصام الذي قام به الطلبة احتجاجاً على نقل المعهد من باريس إلى شرق فرنسا.
اختارها شيراك مستشارة له ثم صارت وزيرة ونائبة في البرلمان
وعند التخرج كانت الثانية على الدفعة، وقد انضمت إلى دورة القياديين التي نظمتها المؤسسة الفرنسية الأمريكية. في صيف 1994 اقترنت فاليري رو بجيروم بيكريس، أحد الإداريين البارزين في الشركات الخاصة، ورزقا بثلاثة أبناء.
خلال ذلك كانت تعمل مدرسة للقانون الدستوري في معهد باريس للعلوم السياسية. وسرعان ما تدرجت في المناصب حيث اختارها الرئيس شيراك مستشارة له، وأصبحت وزيرة للتعليم العالي حيث أنجزت خطة للإدارة الذاتية للجامعات، ثم وزيرة للمالية، ناطقة باسم الحكومة. وبجانب عملها الوزاري خاضت الانتخابات البلدية وفازت عام 2002 بمقعد نيابي عن منطقة «إيفلين» القريبة من باريس وأعيد انتخابها عام 2017.
غادرت فاليري بيكريس حزب الجمهوريين الذي قاده الرئيس ساركوزي وأسست حركة «لنكن أحراراً». ثم عادت إلى الحزب ونجحت في الانتخابات البلدية لتصبح نائبة عن كامل المناطق المحيطة بالعاصمة. وبفضل شخصيتها الرصينة والقريبة من الناس اختارها الحزب لتكون مرشحته للرئاسة.
هل هي فعلاً «القطة الأنيسة» كما تبدو؟
لابد من التسليم بأن لا أحد يصل إلى المناصب السياسية العليا بدون منافسة تستخدم فيها المخالب والأسنان. إنه وسط شديد الشراسة. وبهذا فإن فاليري بيكريس ما كانت لتنجح بدون إتقانها لعبة المناورة والمراوغة والتحالفات وحتى الدسائس. ويقول الذين تعاملوا معها إنها تتمتع بروح محاربة، وهي شديدة الحماسة لتعزيز موقع النساء في الحياة السياسية.
وقد لا تكون مباشرة في خطابها لكن نعومتها أشد وقعاً من الطبع الهجومي الذي تتميز به، مثلاً، زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين، أو الجمود الذي تبدو عليه مرشحة اليسار آن هيدالجو. لقد سبق للمرشحة الاشتراكية سيجولين روايال أن خاضت الانتخابات ونالت أصوات 17 مليون فرنسي لكنها خسرت ضد الرئيس ساركوزي.
فهل تنجح فاليري؟
تقول «بصراحة، لم أسمع أحداً ينتقد سياسياً بسبب ملامح وجهه أو تقاطيع جسمه، رغم أنهم ليسوا أيقونات للكمال، لكن الأمر مختلف مع السياسيات». وتضيف أن المرأة تتعرض للتشكيك في قدراتها، أولاً، بزعم أنها ليست بالمستوى المطلوب. فإذا كانت تملك الكفاءة ولم يجدوا فيها مطعناً انتقلوا إلى السخرية من مظهرها، فإما أنها قصيرة، أو طويلة، أو ذات أنف كبير، أو تشبه البقرة، أو أنها تهمل أسرتها ولا تقوم بواجبها كأم.
وهكذا لا تسلم السياسيات من تلك النظرة التمييزية الرجعية. مع هذا تؤكد بيكريس رفضها للعب دور الضحية. إنها اليوم في الثانية والخمسين من العمر وقد خبرت دهاليز السياسة واللعبة الانتخابية وتجد أن لها فرصة طيبة في الوصول إلى «الإليزيه».
وعموماً فإنها تعرف القصر جيداً، فقد كانت مستشارة فيه. صحيح أنها غير معروفة في الخارج على نطاق واسع، ولكن من كان يعرف إيمانويل ماكرون قبل فوزه؟