في فيلمه «مثلث الحزن»، الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان «كان» السينمائي الأخير، أعاد المخرج السويدي روبن أوستلوند إلى الذاكرة أسطورة اليخت «كريستينا» لصاحبه الثري اليوناني أوناسيس. إنها فرصة لرواية تاريخ ذلك اليخت الفخم الذي شهد زواج أوناسيس من جاكلين، أرملة الرئيس الأمريكي جون كنيدي، وهو تاريخ فيه من الرفاهية والمرح والضحكات قدر ما فيه من مآس وحزن ودموع.
في الفيلم، اختار المخرج روبن أوستلوند تفجير يخت «كريستينا»، وهو تفجير خيالي بالتأكيد لواحدة من أشهر السفن التي احتضنت عدداً لا يحصى من مشاهير القرن العشرين وكانت شاهدة على قصص حب من جهة، ونزاعات مذهلة من جهة أخرى.
أشهر تلك القصص هي تلك التي حدثت في العشرين من أكتوبر 1968 حين قرر المليونير اليوناني أرسطوطاليس أوناسيس أن يقيم حفل عرسه على متن اليخت، وهو يفوز بزوجة نادرة تفوقه شهرة وبريقاً.
إنها الأمريكية الأولى السابقة جاكلين بوفيه، أرملة الرئيس القتيل جون كنيدي. فهناك، فوق اليخت «كريستينا»، قالت جاكي «نعم» للثري اليوناني العجوز.
هل كان زواج حب أم أنه اشترى صيتها بالمال؟ السؤال ما زال مطروحاً بعد 68 عاماً على ذلك العرس الذي شغل العالم وجدد أحزان الكثيرين على الرئيس الأمريكي الشاب الذي مات غيلة.
راجل الأعمال اليوناني أرسطو أوناسيس
فيلم «مثلث الحزن».. كوميديا سوداء
أواخر الشهر الماضي، شاهد رواد مهرجان «كان» الأخير فيلماً تجري وقائعه في مرافق اليخت «كريستينا». وعنوان الفيلم بالغ الدلالة، وهو «مثلث الحزن»، لكنه في الحقيقة فيلم من نوع الكوميديا السياسية السوداء وبعيد كل البعد عن أجواء خمسينات وستينات القرن الماضي وقصص المشاهير واللحظات الرومانسية التي كانت الصحافة تلاحقها من بعيد في تلك الفترة.
فمن المعروف أن أكثر الأماكن أماناً هي اليخوت، فهي تمخر عباب البحر وتمنع «البابارازي» من التطفل على ما يجري في داخلها. ورغم تضارب الآراء فاز الفيلم بسعفة الدورة 75 من المهرجان، وهو يروي قصة رجل وامرأة من الأثرياء الجدد والمفارقات التي يصادفونها مع قبطان ماركسي.
فيلم «مثلث الحزن»
من يملك يخت «كريستينا» الآن؟
تعود ملكية اليخت في الأساس إلى الحكومة الكندية. وقد كان سفينة نقل تدعى «ستورمونت». لكن شهرته بدأت في عام 1954عندما اشتراه أوناسيس مقابل 34 ألف دولار لا غير، أي ما يعادل 365 ألف دولار بقيمة اليوم. وهو قد ألغى اسمه السابق وسمّاه «كريستينا»، تيمناً باسم ابنته التي كانت يومذاك في الرابعة من عمرها.
إنها البنت التي رزق بها من زوجته أثينا ليفانوس، ورغم ثروة والديها فإنها عاشت حياة مضطربة انتهت بوفاتها بأزمة قلبية وهي دون الأربعين من العمر.
لم يقم المالك الجديد بتغيير الاسم فحسب بل قرر أن ينفق 4 ملايين دولار لتحويل اليخت إلى قصر عائم بالغ الفخامة. ولتحقيق ذلك جاء بالمهندس الألماني سيزار بيناو الذي اشتهر بتصميماته الداخلية لليخوت وبأنه مصمم مسبح فندق «بريستول» الفخم في باريس.
اليخت«كريستينا»
وهكذا قام المهندس بقلب اليخت على البطانة، كما يقولون، وأعاد تصميمه من الألف إلى الياء. وكان أهم ما أراده أوناسيس تشييد مدرج في اليخت تحط عليه الطائرات العمودية، بالإضافة إلى مسبح يمكن تحويله إلى حلبة للرقص في الحفلات الكبرى.
كان يمكن استضافة 250 مدعواً في تلك الحفلات. فاليخت يمتد بطول يقارب المئة متر، وفيه «جاكوزي» وصالون باهر يحمل اسم «لابيس» تتصدره مدفأة من حجر اللازورد الأزرق والمعروف في الغرب باسم «لابيس لازولي».
وبهذه المواصفات، سرعان ما أصبح اليخت ملتقى لمشاهير السياسة والتجارة والفنون، تقام فيه حفلات باذخة تبقى حديث الناس لعدة أيام. فقد حل فيه رينيه الثالث أمير موناكو وعروسه نجمة هوليوود جريس كيلي عند زواجهما عام 1956. وكان يمكن الالتقاء على متن «كريستينا» برئيس وزراء بريطانيا الأسبق السير ونستون تشرشل وهو بالسروال القصير وقبعة القش يحتسي كأساً من المرطبات عند حافة المسبح.
وقد استضاف أوناسيس، أيضاً، المغني الأمريكي الشهير فرانك سيناترا والنجمات إليزابيث تايلور ومارلين مونرو ومارلين ديتريش وآفا جاردنر وأعضاء فريق «البيتلز». كما حل الرئيس كنيدي وزوجته جاكي ضيفين على اليخت، قبل اغتياله.
إليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون على متن اليخت «كريستينا»
جاكلين كينيدي تتذوق الحرية علي متن اليخت"«كريستينا»
هبّت على سيدة أمريكا الأولى نفحة من الحرية حين صعدت إلى اليخت للمرة الأولى، عام 1963. إن ركوب البحر الأبيض المتوسط والتمتع بشمسه الساطعة وبحلاوة الحياة الأوروبية يختلفان عن حياتها البروتوكولية في البيت الأبيض. كان أوناسيس يومذاك مرتبطاً عاطفياً بمغنية الأوبرا الشهيرة ماريا كالاس.
بل كانا أشهر ثنائي عاطفي في العالم، هي بموهبتها الفذة وهو بثروته التي كانت فريدة في حجمها يومذاك. مع هذا فقد حرّك لقاؤه بجاكي طموحات أخرى مختلفة. فبعد خمس سنوات من مصرع جون فيتزجيرالد كنيدي احتفل الثري اليوناني بزواجه من أرملة الرئيس الأميركي، وتمت حفلة العرس على متن اليخت الذي شهد لقاءهما.
ومن أجلها أضاءت أنوار السفينة وصالوناتها وشرفاتها بشكل لم يحصل من قبل. أما مراسم العقد فقد جرت في جزيرة سكوربيوس التي يملكها أوناسيس في اليونان. وهناك صورة خلدت تلك اللحظات تبدو العروس فيها منتعلة صندلاً خفيفاً وتحجب عينيها بنظارة شمسية سوداء. وكان مع العروسين أطفالهما الثلاثة، يمرحون ويتضاحكون أمام اليخت الراسي قرب المكان. بدت جاكي سعيدة ومبتسمة، متشوقة لركوب البحر.
جاكلين كينيدي علي متن اليخت"«كريستينا»
في عام 1975، توفي أوناسيس. وانتقلت ملكية اليخت إلى ابنته كريستينا، وقامت الوريثة بنقل الملكية إلى الدولة اليونانية. وهكذا تحول اليخت إلى مركب رئاسي قبل أن يعرض للبيع وتتناقله أيدي عدة مالكين.
وهم لم يكونوا يشترون السفينة التي أصابتها عوارض الزمن بل الذكريات المرتبطة بها.
وفي عام 1998، اشترى اليخت جون بول بابانيكولو، أحد المقربين من عائلة أوناسيس، وهو مثل الملاك السابقين حاول أن يعيد لليخت الأسطوري بهاءه. بعد ذلك باعه في عام 2014 بمبلغ 25 مليون دولار لينتهي اليخت بين يدي الشركة اليونانية البحرية «مورلي» لليخوت. ومنذ ذلك الحين والشركة تؤجره بمبلغ 80 ألف يورو في اليوم، خارج موسم السياحة.
راجل الأعمال اليوناني أرسطو أوناسيس
وتمر السنوات ويأتي مخرج سويدي لينبش أسطورة «كريستينا» وينسج حولها فيلماً معاصراً. كان من الواضح أن طموح المخرج كبير وخياله شديد الجموح.
لقد قرر أن يفجّر اليخت بالمتفجرات وينسفه عن بكرة أبيه. وطبعاً فقد كان التفجير وهمياً ويقوم على الخدع السينمائية.
قال المخرج روبن أوستلوند في مقابلة نشرتها مجلة «فانيتي فير»، «أردت القبض على لحظة حياة اليخت ذي القيمة المعنوية الكبرى ثم تفجيره بشكل استعراضي، بكل ما يحمله من إرث رمزي».
هل أراد تحويل كل ذلك التاريخ إلى هباء؟