11 يناير 2024

استكشف فن "لف الورق" مع جمال بهجت.. رحلة من التفاصيل الساحرة

محررة في مجلة كل الأسرة

استكشف فن

لا يمكن للوحاته المبهجة التي تجمع بين دقة التفاصيل والابتكار، إلا أن تكون «جواز عبور» إلى جماليات لا تنتهي لفن «لفّ الورق»، وتوظيفه ضمن رؤيته الخاصة، وإبداعه اللافت.

يطلّ الفنان جمال بهجت على فن «لفّ الورق» من أبواب كثيرة كانت عاملاً مساعداً على اطّلاعه على هذا العالم، بدءاً من عمله كمدرّس «تربية فنية» في مدينة الإسكندرية بمصر، وخبرته في إحدى مراحل الغزل «سحب وبرم»، لتحويل القطن إلى خيوط، أو من باب توظيف المهنة التي عمل فيها بالإمارات في بداياته، وهي تصميم بطاقات الأعراس، وإن كانت خارج تخصصه الأكاديمي، أو لملء وقت فراغه بـ«توليفة ألوان ساحرة»، والتعبير عن شغفه بهذا العالم.

استكشف فن

نشأ جمال بهجت في الإسكندرية بمصر، حيث عُيّن، بعد الانتهاء من دراسته، في وزارة التربية والتعليم كمدرّس تربية فنية، وغالباً ما يشهد هذا القطاع عجزاً في أعداد المدرسين، فكان يعمل في مدرسة، وانتدب إلى مدرسة أخرى للمرحلة الإعدادية.

بقي 11 عاماً في هذا المجال، ويقول عن الفترة اللاحقة من حياته «في عام 1992، قدمت إلى الإمارات، وعملت في مجالات العلاقات العامة، وفي تصميم بطاقة الأفراح في المطبعة العصرية بدبي، ومن ثم انتقلت إلى مجال العلاقات العامة، واستمررت حتى عام 2020، وفي هذه الفترة استهواني فن «الورق الملفوف» ولم أكن أرتبط بهذا الفن بأي شكل من الأشكال، لأنني كنت أعمل في الخرز والفصوص».

يمثل الفن التشكيلي المعتمد على لفّ الورق توظيفاً فريداً لتقنيات الورق، ويشمل إبداع قطع فنية باستخدام تقنيات «لف الورق»، حيث يركّز جمال بهجت على الألوان والأشكال، واختيار شخصيات، عربية و عالمية، تكون قريبة إلى قلبه، ويعزز التفاصيل وأدوات التعبير بقوة «الورق»، وتدرجاته، وتأثيراته البصرية الفريدة، مستبعداً الذكاء الاصطناعي من دائرة عمله لأنه، بحسب رأيه، «يفرغ العمل من بصمة الإبداع والتفكير، وبالتالي يكون الاعتماد على آلة. فالعمل اليدوي ومعايشة الحالة، وتجسيدها، لن يكون بمقدور الذكاء الاصطناعي بلورتها، أو تجسيدها بما يكفي».

استكشف فن

ثمّة انقلاب رافق مرحلة الفراغ بعد تقاعده عن العمل «اخترت هذا المسار لأنني شعرت بالتماهي مع هذا العالم، وكنت آتي بصور من الإنترنت، وأبدأ العمل بشرائح الورق، وأصنع منها لوحات تعتبر فريدة نوعاً ما، حيث اشتركت بها في معارض بمركز الكفاف بدبي، ومركز بن سوقات بالراشدية، وتايمز سكوير سنتر، في شارع الشيخ زايد، والنادي الثقافي العربي بالشارقة».

شخصيات كثيرة عمل على تصويرها الفنان بهجت باستخدام الورق وتجميعه بطريقة فنية، وآخرها للمهاتما غاندي «عملت على شخصيات هامة وبارزة، وأهمها «حكيم العرب»، المغفور له الشيخ زايد لما تتسم به هذه الشخصية من سمات وصفات نبيلة، وهو شخصية استثنائية لن تتكرر.. إضافة إلى عبدالحليم حافظ، محمد صلاح، ولديّ خطة للعمل على شخصيات أخرى بينها الدكتور أحمد زويل، نيلسون مانديلا، شارلي شابلن، محمد عبده، فاروق الباز، مجدي يعقوب، وغيرها».

استكشف فن

مع الشخصيات المعروفة، تختلف الأمور «أتعامل مع أي شخصية بمنتهى الحذر، لأن أيّ تفصيلة مختلفة قد تعرّضني للانتقاد. فاللوحة التي تجسد الإمام محمد متولي الشعراوي كانت تحدياً بالنسبة إليّ، بشعره الأبيض المختلط بالشعر الأسود، حيث من الصعب عبر «حتة الورق» أن نجسد تفاصيل الوجوه والملامح، وهذا تحدٍ خضت غماره، ونجحت في إنجاز لوحة للإمام الشعراوي استغرقت نحو الشهرين».

والأمر نفسه ينسحب على الفنان عبدالحليم حافظ الذي يعبّر عن شغفه به إلى أبعد حد «كنت أركض في الشارع لأشتري مجلة الإذاعة والتلفزيون أسبوعياً، وأتابع مواقيت أغانيه عبر الراديو، وهذا الشغف الذي دفعني إلى إنجاز صورته بـ«لفّ الورق» هو الذي قادني أيضاً إلى الخروج بلوحة ناجحة ومميزة».

ومن خلال تلك التحديات، يستكشف بهجت مدى إمكانات الورق، والقدرة على تطويعه لإنتاج أعمال فنية تزاوج بين الهندسة البسيطة، والتفاصيل الدقيقة «فالتحدي يكمن في «هروب» أي تفصيلة صغيرة، عندها أفقد اللوحة، لكون «لفّ الورق» هو فن يعتمد على جماليات تصميمه، وتنفيذه بدقة، وبالتفاصيل و اختيار الألوان بدقة أكبر، والابتكار في تصميم «لفّ الورق» يضفي لمسة جمالية فريدة، وشخصية للعمل النهائي».

وعدا عن كونه وسيلة للتعبير الفني عن المكنونات والمشاعر، فإن بهجت وظّف شغفه بالخط العربي في هذا المجال «غالبا ما أحمل قلمي معي في أي مكان، لكوني شغوفاً بفن الخط، وأستلهم من الخطاطين حولي، وبينهم الخطاط خليفة الشيمي، الكثير من المهارات، حيث لا أجد عيباً في التعلّم المستمر، لكونه منطلقاً لتطوير موهبتي نحو آفاق أوسع»، لافتاً إلى عدم إلمام العامة بأبعاد فن «لفّ الورق»، وبكل تلك الآفاق الواسعة، والجهد المبذول لبلورته في لوحات «ولكني عندما قابلت الخطاط خليفة الشيمي الذي أعتبره قيمة وقامة، احتضنني لأنه شعر بأني أعمل على مجال فريد، وقلة من تخوضه».

استكشف فن

تقنية «لف الورق» بحاجة إلى الصبر والوقت، لكون هذا النوع من الفن يعكس الإبداع والمهارة في التلاعب بالمواد البسيطة لإنشاء عمل جديد، وجمالي، ويشجع هذا النهج على الابتكار، ويعزز التفاعل بين التقاليد الفنية والتقنيات الحديثة التي يستبعدها بهجت.. يشرح الفنان جمال بهجت «الحكاية تبدأ من الأوراق التي أقصّها إلى شرائط بحجم سنتيمتر واحد، أو سنتيمترين، وكل التفاصيل أقوم بها يدوياً، وفي بعض الأوقات قد لا أحصل على درجات لون الورق الذي أنشده، وهذا تحدٍّ آخر يواجهني، كما أن بعض الأوراق الخاصة بهذا العمل قد نشتريها وتكون جودتها أقل، وبالتالي نجد أن اللون الأصلي للون الأسود هو أبيض».

قطعة خشبية نهايتها معدن هي أداة لفّ الورق، حيث «تختلف تقنيات اللف بين ترصيص الورق بشكل معين، أو تشكيله تبعاً لورقة الشجرة، أو أبلوره بشكل آخر عن طريق «المشط» (إحدى أدوات العمل)».

ولتثبيت ما أنجز من «لف الورق»، يستخدم بهجت الدبابيس، والمقص، والملقط، والغراء، وإحدى الأدوات استقدمها من الهند لتساعده في الحصول على «ورق مضلّع»، وفي بعض لوحاته وظّف خبرته في التربية الفنية لإدخال الخرز، عشقه وشغفه الأول، مع الورد وأنتجت مزيجاً جميلاً.

حتى البومة التي يعتبرها البعض مصدراً للتشاؤم حوّلها إلى كتلة نابضة بألوان التفاؤل، والفراشات عالم آخر من الجمال والألوان المبهجة التي يوظفها في مجال التصميم الزخرفي «أشبه بسجادة من الألوان»، يصف لوحة الفراشات، ويشير إلى أن «ثمة لوحات تشكل عملاً فنياً متكاملاً، وتستغرق اللوحة حسب المزاج والحالة النفسية، حيث دماغي لا يتوقف عن التفكير في حال كان ثمة عمل عليّ إنجازه».

تتسم ألوانه بالحرارة، والقوة، والفوضى، ثلاثية يرصدها بهجت في أعماله، حيث تنسجم أدواته مع مهاراته، ومع الأبعاد الفلسفية التي يرى فيها اللوحة قبل الإنجاز النهائي، «ثمة ألوان «تلعب على الحالة النفسية» و تشدّني، وتكون مفعمة بالبهجة».

استكشف فن

ويروي عن لوحة عايشها بتفاصيلها «من ضمن الحيوانات القريبة جداً للإنسان، هي القطط والكلاب، وفي إحدى المرات استرعت انتباهي صورة كلب غارق في الحزن، وكان التحدي الأكبر أن أظهر، عبر اللوحة، تفاصيل الحزن الكامن في عينيه عبر «لفّ الورق». كان التنفيذ صعباً ولكني استطعت تحدي نفسي، وإنجاز ما أصبو إليه».

هذا الشغف ترافق مع صور عالقة من الإسكندرية «معشوقته»، كما يطلق عليها «أستلهم من هذه المدينة، عروس البحر الأبيض المتوسط، الكثير من الصور، حيث متعتي الوحيدة عندما أقصد بحر إسكندرية أن أجلس على الشاطئ، وأستمتع بصوت الأمواج تتلاطم، وأستغرق على هذه الحالة ساعات، وأبوح للبحر بأسراري، وأنا على يقين بأنه لن يقولها لأحد».

وقرب المدرسة التي كان يعلّم فيها، من البحر جعله يتماهى مع عشقه للبحر، وأثمرت علاقته بالبحر حب الطبيعة، ليستلهم من صور الذاكرة النابضة بالحنين ويجسدها في لوحات عدة «غالباً ما يسألونني عن الوقت الذي يستغرقه إنجاز اللوحة، وهذا رهن بمزاجي ونفسيتي، حيث يجب أن أكون مهيأ نفسياً، للعمل والإنجاز، حتى أنني في بعض الأحيان قد ألغي ما أقوم به، لأني أهدف إلى إنجاز عمل بأحسن صورة، لأن هذا العمل يحمل اسمي».

استكشف فن

ثمة معالم ألهمته في الإمارات، وتجسد مفردات التراث الإماراتي، ومن بينها البرقع الذي ترتديه المرأة الإماراتية «هذا يشكّل لي مصدر إلهام، لكونه محمّلاً بالكثير من صور التراث والذاكرة، كما اشتركت في معرض بمناسبة يوم المرأة العالمي، وأنجزت لوحة لفتاة إفريقية تضجّ بالألوان المبهجة».

الفنان جمال بهجت هو أب لابن (محمود) وابنة (إسراء)، استثمر فيهما، فتخرجت إسراء صيدلانية في جامعة الشارقة، ويحضّر محمود للماجستير في الصيدلة السريرية حالياً، حتى أن تخصص زوجته يتماهى مع تخصص الأبناء، إلا أن حياته وسط «المعدات الطبية والمعادلات الكيميائية والأدوية» لم تمنعه من استكمال شغفه.

واللافت أن بهجت يفضل العمل في بيئة غير خالية «حركة أفراد أسرتي داخل المنزل، وأنا أعمل في زاويتي الخاصة، لا يعيقني عن الإنجاز، بل يحفزني على الإنتاج، رغم أنه من الأمور الغريبة التي تميزني عن كثيرين ممّن يبحثون عن الانغماس في الهدوء التام، عند إنجاز عملهم».

يباشر بهجت يومه مبكراً «يومي يبدأ في الصباح الباكر، حيث أصلّي، وأشرب قهوتي، وأفطر، وأقرأ الأدعية والورد اليومي من القرآن الكريم، وأباشر العمل، والبحث عن مواضيع ملهمة».

* تصوير: السيد رمضان